حتى وإن كان ثمة إجماع على أن دورة العام الفائت من مهرجان «كان» السينمائي، كانت واحدة من أسوأ دورات الأعوام الأخيرة، فإن المنطق يفرض علينا بعض التحفّظ إذا ما شئنا منذ الآن، ومن قبل أن يكون أي كان شاهد أياً من أفلام الدورة الجديدة للمهرجان نفسه، والتي ستفتتح فاعلياتها بعد أيام قليلة بفيلم جديد للمخرج الأميركي وودي آلن، أن نحكم على هذه الدورة الجديدة أو نجري نوعاً من المقارنة. فمن الناحية الفعلية، لم يعد في الإمكان إبداء اليقين المسبق تجاه أي فيلم طالما أننا عرفنا في الدورة الفائتة، خيبات مدهشة لعل أفدحها الخيبة العامة تجاه الفيلم الذي عرضه واحد من أساطين السينما القوية في هوليوود غاس فان سانت. فيلم هذا الأخير علّم المعنيين حينها درساً، ومن هنا يفترض بالآراء تجاه مستوى الدورة الجديدة أن تتسلّل بحذر. ومع هذا، يمكن الافتراض أنها ستكون دورة كبيرة، إن لم يكن من ناحية ردود الفعل تجاه الأفلام المعروضة فيها، فعلى الأقل من ناحية الاختيارات، في «المسابقة الرسمية» كما في عدد لا بأس به من التظاهرات الأخرى. فهذا العام، وإذا استثنينا عدداً قليلاً من كبار سينمائيي السينما الراهنة في العالم، من الذين فضّلوا أن يعرضوا جديدهم في مهرجانات منافسة، أو تأخر تحقيقها بحيث يمكنها أن تنتظر حتى العام المقبل، أو – كما حال الأخوين كون – فُضّل عرضها في الصالات التجارية، إذا استثنينا هؤلاء، سنجد أنفسنا، ومنذ الافتتاح، أمام مجموعة من كبار السينمائيين العاملين في سينما اليوم في العالم. من دون أن ننسى أننا نجد أنفسنا أيضاً أمام عدد لا بأس به من مخرجين شبان في عشرينات عمرهم، يشاركون في «كان» للمرة الأولى محققين ما يفخر به، عادة، هذا المهرجان من تقديمه، عاماً بعد عام، تلك الأسماء التي ستصبح أشهر ما في عالم سينما السنوات المقبلة. وفي هذا السياق نفسه، لو تصفّحنا أسماء المخرجين الكبار الذين تشارك أفلامهم، هذا العام، في التظاهرات الأساسية، سنجدنا أمام مبدعين نموا مع «كان» وربما كانت فيه، خلال العقود الفائتة، أولى إطلالاتهم على السينما العالمية. فرهادي في اللحظة الأخيرة إذاً، سواء كانت الأفلام الأساسية المعروضة أعمالاً كبيرة وتجديدية في عالم الفن السابع، أو مفصلية في عالم أصحابها، أو لم تكن، فإن هذه الدورة التي تحمل الرقم 69، دورة كبيرة، إذ يمكننا أن نقول عنها، منذ الآن، وقبل أن نشاهد أياً من أفلامها: إذا كانت هذه الأفلام أيضاً ستصيبنا بالخيبة، فعلى السينما السلام! ولعل فيلم الافتتاح – خارج المسابقة – الذي يحمل توقيع وودي آلن، واسماً ذا هيبة ومكانة في تاريخ الثقافة الأميركية هو «كافي سوسايتي»، ينفع لإعطائنا نقطة الانطلاق في حديثنا هنا. فآلن، الذي يعود هنا الى افتتاح «كان» للمرة الثالثة خلال أقل من عقد ونصف العقد (فيلم «نهاية هوليوودية» – 2001 -، ثم «منتصف الليل في باريس» – 2011)، ودائماً خارج المسابقة، يجعل موضوع فيلمه يدور، مرة أخرى، حول السينما وأهلها والكتاب الشبان الذين أرادوا غزوها واضعين آمالهم فيها. والشخصية المحورية في الفيلم، كاتب سيناريو شاب (جيسي أيزنبرغ) سيحدث له هناك أن يقع في حب فتاة متنوعة الشخصية (كريستن ستيوارت) فيما هو ينتظر المجد. مع مثل هذا الافتتاح يكون من حقنا، إذاً، أن نتوقع أن يعطينا المخرجون الكبار المشاركون خير ما يعتبرونه جديدهم، أولاً في «المسابقة الرسمية» ثم في العروض الخاصة، فعلى التوالي في تظاهرات عديدة موازية لعل من أهمها «نظرة ما»، التي سيفتتحها هذه المرة، وفي شكل استثنائي الفيلم المصري «اشتباك» لمحمد دياب - الذي سبق أن أثنى النقد الفرنسي على فيلمه السابق «786»، الذي عرض في باريس -، ويشكل اليوم واحداً من مجموعة قليلة من أفلام عربية تعرض في التظاهرات المختلفة، لكن ليس في «المسابقة الرسمية» وما هو حولها. ومع هذا، لن يكون الشرق الأوسط غائباً عن هذه المسابقة، حيث أعلن في اللحظات الأخيرة عن مشاركة أصغر فرهادي، المخرج الإيراني المبدع (صاحب «طلاق» الذي فاز بأوسكار أفضل فيلم أجنبي قبل سنوات، ثم «الماضي» الذي شارك في مسابقة «كان» الرسمية قبل ثلاثة أعوام ونالت بطلته جولييت بيجو جائزة أفضل ممثلة). فرهادي يعود هذه المرة مع جديده «البائع» الذي يدور في طهران لكنه يبدو، الى حد ما، مقتبساً من مسرحية آرثر ميلر «موت بائع جوال». مهما يكن، لا شك في أن فيلم فرهادي سيكون مثيراً للاهتمام من ناحية تصويره جزءاً من صعوبة الحياة في المجتمع الإيراني اليوم. بؤس العالم وصعوبة الحياة هذه، ربما تشكّل القاسم المشترك بين عدد لا بأس به من أفلام مسابقة هذا العام، حتى وإن جنح بعضها الى الرجوع زمنياً الى الوراء، الى بدايات القرن العشرين (كما في فيلم برونو دومون «ما-لوت» الذي يروي لنا حكاية حب على خلفية حبكة بوليسية في منطقة ساحلية فرنسية عام 1910)، أو الى ما قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها (كما لدى الفرنسية نيكول غارسيا في «داء الصخور» المقتبس عن رواية تتحدث عن امرأة يفشل زواجها، هي التي تبحث عن الحب المطلق، أو لدى الكوري بارك – تشان ووك في «الخادمة» الذي تدور حكايته – المقتبسة عن رواية لسارة واترز – بين كوريا واليابان في ثلاثينات القرن العشرين). فالحال أن استعراضاً لأمهات الأفلام المعروضة – في المسابقة الرسمية وحولها على الأقل -، سيعيدنا الى تلك الحساسية التي دائماً ما نعزوها الى السينمائيين في قدرتهم، وربما أكثر من أي مبدعين آخرين، على التقاط الروح العامة للزمن الذي نعيش فيه. وإدراكهم البؤس والتهميش السائدين، الى درجة قد يكون ممكناً معها الحديث عن عودة السينما، من خلال دورة «كان» الجديدة، الى تصوير هذا البؤس وهذا التهميش في شكل معمّم. والحال أننا إذا نقول هذا، لا بد أن نفكر أول الأمر بكين لوتش (الملقب ب «آخر اليساريين المحترمين» في سينما اليوم). فلوتش، وبعد خمسين سنة من فيلمه «كاتي عودي الى البيت» (1966)، الذي تحدث عن فتاة تنتمي الى عالم التهميش، يعود اليوم في فيلمه الجديد – والذي، نظراً الى سنّه، يمكن القول أنه ربما يكون فيلمه الأخير -، الى موضوع التهميش والجوع نفسه، صارّاً على أسنانه معلناً أن خمسين سنة من فضح الممارسات الرأسمالية، لم تخفّف من بؤس المسحوقين وجوعهم. وهو يقول هذا في فيلم «أنا، دانيال بلاك» المشارك في المسابقة الرسمية، والذي يدور من حول بنوك الغداء والإفلاسات، وكل ما يتعلق بما يسمّيه لوتش، وهو يقترب من الثمانين من عمره، «جشع الرأسمالية المصرفية». هذا الجشع نفسه ستصوّره لنا جودي فوستر – إنما خارج المسابقة – بفيلمها الجديد «المال الوحشي» الذي تتعاون فيه، كمخرجة، مرة أخرى مع جورج كلوني الذي يلعب دور مقدم برامج تلفزيونية اقتصادية يبدي نصائحه في برنامجه لصغار أصحاب الأموال في ما يتعلق بشراء الأسهم وبيعها. وذات يوم، يحدث أن واحداً من هؤلاء يخسر كل تحويشة العمر، إذ يتبع نصائح كلوني، فيخطفه خلال تقديم برنامجه على الهواء... والطريف أن مقدم البرنامج، جورج كلوني، يحمل في الفيلم اسم لي غيتس (هل علينا افتراض قرابة أو مقاربة مع بيل غيتس؟). وفي سياق يتعلق كذلك بما تعانيه البشرية في هذه الأيام، ها هو شون بين، يعود الى مسابقة «كان» بعد خمسة عشر عاماً من مشاركته كمخرج بفيلم «التعهد» (عن قصة للسويسري فردريك دورنمات)، إنما هذه المرة بفيلم عنوانه «الوجه الأخير» جعل بطولته لتشارليز ثيرون وخافيير بارديم، وموضوعه أولئك الأطباء المتطوعون في أفريقيا، حيث من خلال حكاية حب وصراع، «يفضح» الفيلم بدوره تلك المصائر التي باتت مرسومة للشعوب الأفريقية البائسة. أما الأخوان لوك وجان – بيار داردان، اللذان لا يغيبان عن «كان» إلا ليعودا إليه، سواء كانت الجوائز من نصيبهما – عن استحقاق -، أو محجوبة – ظلماً – عنهما، فيعودان هذه المرة بفيلم جديد، ربما يخرجان به عن السياق البؤسوي الذي طبع أعمالهما الأخيرة («الصبي ذو الدراجة» و «يومان وليلة»...)، ليغوصا، لكن دائماً من خلال البؤس «الطبي» المستشري، في التمزق النفسي لطبيبة شابة، حدث لها أن رفضت استقبال شابة أخرى كانت تحتاج الى عنايتها، ثم عُثر على هذه الشابة ميتة. ومن هنا، إذ تشعر الطبيبة بالندم يمزقها، وتعلم من الشرطة أن الفتاة مجهولة الهوية – عنوان الفيلم «الفتاة المجهولة» – تبدأ بسعي للبحث عن اسمها ومن أين أتت ولماذا ماتت هنا. بنات ضائعات بحث آخر، تقوده امرأة أخرى، نجده في فيلم «خولييتا» الذي يعود به الإسباني الكبير بيدرو المودافار الى «كان» بعد غياب طويل، وربما أيضاً – كما يقول نقاد إسبان متحمسون – الى الجوائز «الكانيّة» التي باتت غير قادرة في السنوات الأخيرة على معرفة الطريق إليه. خولييتا في الفيلم هي امرأة تعيش في مدريد فقدت لتوّها زوجها خوان، وها هي ابنتها التي بلغت الثامنة عشرة من عمرها، قررت أن تبارح البيت من دون أن تعلمها. من هنا تنطلق خولييتا في رحلة معقدة للعثور على ابنتها. أما الشيء الوحيد الذي تعثر عليه في نهاية الأمر، فهو اليقين من أنها لم تكن تعرف شيئاً عن هذه الابنة. وربما يكون على خولييتا، وهي تبحث عن ابنتها الضائعة، أن تشاهد في المهرجان فيلم «أميركان هاني» الذي تعود فيه المخرجة الاسكتلندية أندريا آرنولد الى «كان»، إنما في فيلم أميركي، بعد بدايات «كانيّة» واعدة قبل سنوات. فيلم «أميركان هاني» الذي صوّر في الغرب الأوسط الأميركي، فيه متابعة من نوع «فيلم الطريق» لفتاة، تكاد تشبه ابنة خولييتا، في الفيلم الإسباني، تضجر من الحياة التي تعيشها، فتهرب من ديارها لترافق مجموعة من الهامشيين بائعي المجلات وهم يدورون بين قرية وأخرى. جغرافيا ظالمة من الأخوين داردان الى جودي فوستر، ومن وودي آلن الى كين لوتش وأندريا آرنولد، وصولاً الى بول فيرهوفن وستيفن سبيلبرغ وأوليفييه السايس وبدرو المودافار وعشرات غيرهم، يتوزع على تظاهرات دورة «كان» الجديدة، إذاً، عدد من ألمع الأسماء في تاريخ سينما اليوم في العالم. ولعل في الإمكان القول أن التوزع – جغرافياً على الأقل – يبدو هذه المرة عادلاً الى حد ما، فلكل منطقة جغرافية حصتها، إن كان هذا الأمر لا يزال مهماً في زمن العولمة الذي نعيشه اليوم حين يصور كوري جنوبي رواية إنكليزية، ويصور مخرج فرنسي فيلماً أميركياً... وإذا استثنينا فرنسا (التي تشارك بخمسة أفلام في المسابقة الرسمية، وبعدد لا بأس به في التظاهرات الأخرى – ونسلّم بأن هذا حقها طالما أنها هي البلد المضيف، وطالما، وهذا أهم، أنها هي من يموّل العديد من أفلام آتية من بلدان أخرى مثل رومانيا، والبرازيل وحتى الفيليبين)! – وفرنسيو هذا العام هم أوليفييه السايس (في «برسونال شوبر») وآلان غيرودي (في «البقاء عمودياً») وبرونو دومون («ما-لوت») ونيكول غارسيا، ناهيك بفيلم خامس أضيف في اللحظات الأخيرة!، إذا استثنينا فرنسا، نجد أربع مشاركات أميركية (فيلم الافتتاح «كافي سوسايتي» – فيلم «حب» لجف نيكولز – فيلم شون بن – وأخيراً فيلم جيم جارموش (باترسون)، علماً أن لجارموش فيلماً آخر يعرض خارج المسابقة الرسمية هو «جيم دانجر»... بعد ذلك، تأتي إنكلترا بفيلمين: فيلم كين لوتش، وفيلم أندريا آرنولد المصوّر، على أية حال، في أميركا. أما رومانيا فلها أيضاً فيلمان، من إنتاج فرنسي، واحد لكريستيان مونجيو (بكالوريا)، والثاني لكريستي بويو (سييرا نيفادا). والى هذا، إذا كانت رومانيا تمثل أوروبا الشرقية وحدها، في المسابقة الرسمية على الأقل، فإن القارة الآسيوية تبدو أفضل تمثيلاً نسبياً، إذ هناك فقط الى جانب فيلم أصغر فرهادي الإيراني، فيلم من الفيليبين هو «ماروزا» لبريانتي مندوزا... الى جانب الفيلم الكوري الجنوبي «آغاسي، او الخادمة اليدوية». وفي المقابل، يبدو الحضور الأميركي اللاتيني شديد البؤس: فيلم واحد من البرازيل هو «أكواريوس». وفي السياق البائس نفسه، تتمثل أوروبا الى جانب الأفلام الفرنسية وفيلم الإسباني المودوفار، فقط بفيلم «شيطان النيون» الذي حققه نيكولاس ودن رفن، وهولندا بفيلم «ايل» لبول فرهوفن، علماً أن هذين الاثنين باتا منذ سنوات محسوبين على السينما الأميركية! فتى مونتريال الذهبي والى جانب هذا كله، لا بأس من الإشارة الى مشاركة منتظرة أكثر من غيرها، في المسابقة الرسمية، هي مشاركة الكندي – الفرنكوفوني – كزافييه دولان بفيلم جديد له عنوانه «إنها فقط نهاية العالم». صحيح أن الفيلم يُعرض باسم كندا، لكنه في الحقيقة فيلم من إنتاج كندي – فرنسي يقوم ببطولته عدد من النجوم الفرنسيين (غاسبار أولييل، ناتالي باي، ماريون كوتيار، ليا سيدو وفنسان كاسيل) عن رواية للكاتب جان – لوك لاغارس. أما موضوعه فيدور من حول كاتب يعيش أيامه الأخيرة فيعود بعد 12 عاماً من الغياب ليعلن لعائلته قرب موته. ولنا أن نتصور التوترات والصراعات والأشجان التي يثيرها مثل هذا الإعلان. كما لنا أن نتصور كم ستكون خيبة معجبي سينما هذا «الفتى الشاطر»، كبيرة إن خرج هذه المرة أيضاً من مولد «كان» بلا حمّص، كما كانت حاله مع تحفته السابقة «مامي» الذي نال تصفيقاً في دورة سابقة ل «كان» فاق أي تصفيق آخر، لكنه يومها لم يصل الى مسامع لجنة التحكيم. فهل تكون الحال مختلفة هذه المرة في حفل الختام يوم 22 أيار (مايو)، حيث سيكون على لجنة التحكيم برئاسة المخرج جورج ميلر («ماد ماكس») أن تحسم أمرها، بين عدد من كبار أهل السينما في زمننا الراهن؟