في الرواية الأولى للكاتبة والشاعرة اللبنانية البريطانية مريم مشتاوي، وعنوانها «عشق» (دار المؤلف)، تعرض العمّة نبيلة، رئيسة الممرضات في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، خلال الحرب اللبنانية، على «ياسمين» - إحدى الممرضات - الزواج بأخيها عبدالله لمساعدته في التخلص من علاقة حبّ تربطه بامرأة متزوجة. لكنّ عبدالله يُغادر لبنان لأنه كان ملاحقًا سياسيًا، ولكي ينسى حبّه المستحيل يترك ياسمين حاملًا بابنته عشق. ما أن تطرح الكاتبة هذه الإشكالية حتى تؤسّس لخط درامي يبدو مألوفًا. الأم ياسمين تلجأ إلى مريم العذراء فتتعبّد لها وتصلي كي تحميها من أعين القناصين ورصاصهم، تحفظ لها ابنتها وتعيد زوجها الذي تقول إنها غفرت له إكرامًا للعذراء؛ هي مشهدية الحرب عينها والطقوس الدينية المألوفة التي تمارسها امرأة مؤمنة ك «ياسمين» تصفها الكاتبة بدقة متناهية، لا تخلو من جمل إنشائية أحيانًا. في نيويورك عام 2013، كما ورد في بداية الفصل الأول من الرواية، تعرفت عشق إلى والدها وجاءت رسالتها الشهيرة لأمها عبر الواتساب «طفي شمعتك يا إمي موعدك مع عجيبتك تأخر عشرين سنة» (ص 29)، فتترك عميق أثرها في ذهن القارئ لما تحمله من عوامل خيبة وألم تجعلها أقرب إلى السخرية السوداء. هذا وكانت الكاتبة قد أعدت لقاء بين عبدالله وكريم، صديق عشق منذ الطفولة وحبيبها لاحقًا، بفعل مصادفة بحتة في بوسطن عام 2010، فيظن القارئ أنها قد تبني عليه خطاً درامياً ما. إلا أننا نفاجأ بأن عشق سافرت إلى لندن لتكمل دراستها، بعدما فشلت قصة حبها لكريم. في لندن، تحاول عشق أن تتخلص من ماضيها فتفاجئنا بحمل غير متوقع من شخص لا تعرفه كانت قد ارتكبت «إثم» مضاجعته ثملة. وهنا تضعها الكاتبة بمواجهة المعضلة الأولى لحياتها اللندنية، فمع أنها تحررت من ماضيها، لم تتخلص من رواسب هذا الماضي. ماذا ستقول أمها وخالها...؟، حتى ألكس والد الطفل لم يبدِ أي اهتمام وطلب منها أن تجهض الجنين، فبدأت حربها مع الحياة في لندن، حرباً من نوع آخر. وفي هذا السياق، تلجأ الكاتبة إلى خلق نوع من المماهاة بين ما واجهته عشق في بيروت، عندما كان سكان البناية يتكومون في الطابق الأول، ظنًا منهم أنه الأكثر أمانًا، وما ستعيشه لاحقًا في لندن وماهية تفاعلها معه. «كانت دائمًا تبحث في الزوايا وتتجه إليها وكأنها تؤمّن لها راحة نفسية لأنها محددة ومحمية من الجوانب، كأنها تبحث عن ذلك الركن الصغير في منزلها في بعبدا حين تشتدّ حربها النفسية وحين تضربها الحياة بقذائف فجائية»، (ص46). وكان هذا الوصف مرافقًا لحديث سيجري بينها وبين نور عن الاحتفاظ بالطفل من عدمه؛ إنها إذًا إشكالية الحياة والموت ذاتها؛ إنما في أطرها وقوالبها اللندنية هذه المرة. تختار عشق أن تنجب ابنها جاد وتكمل دراستها بمساعدة نور صديقتها الوفية، إلى أن يصفعها القدر مرة أخرى ويصاب جاد بمرض السرطان، فتفجع بوفاته وتقع أسيرة هذا النزاع الشرس بين الحياة والموت الذي يصيبها مرة جديدة، إنما في أغلى ما لديها. انطلاقًا من هذه الحادثة ومن حادثة موت الطفلة الصغيرة روزا ابنة الجيران على يد أمها خلال انفجار في الحرب البيروتية، تطرح الكاتبة إشكالية جديدة: «ما أهمية الحياة حين يختل توازن طبيعتها؟... أطفال كثيرون يرحلون أمام أعين أهاليهم. ما أهمية الحب حين نقف عاجزين أمام الموت؟» (ص 63). تختار مشتاوي أن تطعن عشق في أمومتها هذه المرة، فلا يبقَى أمامها الكثير. بتشجيع من نور ومن صديقها المثقف المعروف محمد سلام، تنبش عشق من الماضي قصائدها، تلك التي كتبتها وهي بصحبة جاد في المستشفى، تصطدم ونفاجأ معها بواقع أن تجربتها الشعرية ما زالت تحتاج للصقل والنضج كما قال لها «الأستاذ» محمد في لقائهما الأول (ص 80 - 81). تحزن عشق التي خالت أنه سيطلق عليها لقب الشاعرة، إلا أن هذا لا يزيدها إلا إصرارًا ومثابرة. تبدو الأحداث واقعية هنا إلى أن تقرر الكاتبة مضاعفة الجرعة الخيالية فتجعل من عشق شاعرة ذات شهرة في سرعة قياسية، على رغم أنها لا تحتاج الى هذه المبالغة في خطّ سير أحداث الرواية. وقد تبدو هذه الملاحظة ثانوية، إلا أن اتجاه عشق نحو العالمية وجعلها الشاعرة النجمة أفقد الكاتبة سيطرتها المحكمة على بقية أجزاء الرواية، وخلق تفاوتًا واضحًا بينها. في هذه الأثناء تتعرف عشق إلى هادي وتغرم به. كما تفجع من جديد بخسارة صديقتها نور في حادث سير خلال سفرهما والأستاذ «محمد» إلى بيروت. وعلى رغم التفاصيل التي ذكرتها الكاتبة عن الزيارة، ومنها بيتها في بعبدا، يبقى مصير الأم مغيَّبًا تمامًا فلا نعرف عنها شيئًا حية كانت أم ميتة. بعد وفاة جاد ومن ثم نور تشبّثت عشق بهادي أكثر ليتّضح لنا في ما بعد أن هادي هو هذا الحبيب المتخيّل الذي تخترعه عشق المصابة بمرض نفسي، وهنا يفهم الأستاذ «محمد» خلال زيارتهما إلى الطبيب لماذا لم تعرِّفه عشق إلى هادي يومًا. إذًا الحبّ المتخيّل هو ملجأ عشق بعد أن فقدت من تحبهم، تمامًا كما كانت التماثيل التي تشكلها الشموع في ذوبانها ملجأ أمها التي طالما ظنّت أن العذراء ترسلها لها. هي رسالة توجهها الكاتبة إلى قرائها، رسالة محفّزة على الأمل والتفتيش عن السعادة وإن في أحضان الوهم، وكأننا نبحث دومًا عن عجائب نخترعها. أجادت مشتاوي تركيب شخصيات روايتها وربط العلاقة في ما بينها مستندة إلى الأبعاد السيكولوجية والنفسية، ومدى تأثّر كل منها بأحداث الرواية. بدت انفعالات أبطال الرواية منطقية ومتوقعة في الغالب، كما أسندت الكاتبة إلى الشخصيات الثانوية أدوارًا مهمة جعلت من حضورها في الرواية ذي أثر؛ مثل روزا التي استخدمت موتها على يد أمها بناءً تشيّد عليه إشكالية الموت والحياة وجدواها. لهذه الرواية بطلة شاعرة عشق، أستاذها وأبوها الروحي محمد سلام شاعر، حبيبها المتخيّل هادي شاعر، تسعى الروائية إلى التعبير عن هذا الجوّ الشاعري، وبالتالي يبدو من الصعب القول إن كانت مريم مشتاوي الروائية قد تغلّبت على مريم الشاعرة في هذا العمل، إلا أنه وبإمكاننا الجزم أننا أمام عمل روائي استحق التوقف عنده.