«هن ثلاث نساء عراقيات، يبحثن في وطن الأحلام. واحدة انتهى بها العمر في أرضه، وواحدة تبكي كل ما ضاع من أرضه، وواحدة لم تعد تبحث عن شيء في أرضه» (ص224). يمكننا أن نستعين بهذه الكلمات كي نختصر الأجواء التي تدور فيها رواية «بلا شطآن» (دار المدى) للإعلامية العراقية سلوى جراح التي تقيم في لندن منذ اثنين وعشرين عاماً. هي رواية عن العراق من خلال حكايات ثلاث نساء هربن من بلادهن إلى البلد الذي كان يستعمر وطنهن، إلى لندن، حيث وجدن الأمان والحرية والعلم والاستشفاء، وحيث أمكنهن الاحتفاظ بصورة العراق كما يحلمن به. ولا يغيب عن الروائية هنا أن تلفت إلى العلاقة الغريبة التي تربط الشعوب المستعمَرة بمستعمريها، فتقول: «العرب يستنجدون دائماً بالخبرة الطبية للدولة التي استعمرتهم في ما مضى. المغاربة يذهبون للعلاج في فرنسا، وعرب المشرق لا يثقون إلا بخبرة الأطباء البريطانيين» (ص143). المهندسة «جمانة» من أصل فلسطيني، «حفظت عن ظهر قلب المحاضرة المكررة عن أن الفلسطيني ليس أمامه إلا أن يتعلم، وأن العلم هو ثروته الوحيدة وجواز مروره إلى العالم، بعد أن فقد بلده وكل ما يقدمه الوطن من استقرار ومكانة وجذور» (ص30). لذلك تردد والدها طويلاً قبل أن يوافق على زواجها من تاجر السجاد «رضا»، الذي لم يتم دراسته، لاضطراره إلى رعاية أمه وإخوته بعد وفاة والده. تهرب هذه العائلة من بغداد بعدما رفض «رضا» فكرة أن تصل سيارة من القصر الرئاسي لتصادر كمية من أفخر السجاد من متجره، ما يعني في نظره أن الوطن كله أصبح مصادراً. وحين يموت زوجها ويدفن في لندن، تعرف «جمانة» أن صفحة العراق طويت إلى الأبد. «بلقيس» صديقة «جمانة»، تفقد أحد ولديها في الحرب مع إيران، فتهرب إلى لندن مع زوجها «عبد القادر» وابنها الذي خافت أن تأخذه منها الحروب التي لا يبدو أنها ستنتهي في تلك البلاد. أما «خلود»، المرأة الثالثة، فزوجة «عادل» المحامي الذي يكبرها بكثير، والذي تحدى عائلته حين تزوج منها وهي دون مرتبته الاجتماعية. فهرب الزوجان إلى لندن بعد الضجيج الذي أثاره هذا الزواج، وغضب العائلة البورجوازية، وكان ذلك في ستينات القرن الماضي حين كانت الهجرة إلى الغرب تعد تجربة نادرة، وكان العراقيون والعرب قلة في تلك البلاد (ص143). لكن «خلود» حين صارت في ستينات عمرها تقرر العودة لتتعرف إلى العراق الذي غادرته صبية. وعلى الرغم من ممانعة زوجها وصديقتيها، ترجع إلى «بغداد» حيث تقضي في انفجار سيارة مفخخة. تتعدد أسباب الهجرة إذاً والنتيجة واحدة، وتختلف أزمنة الهرب لكن هناك دائماً ما يجبر الناس على الرحيل: تمييز طبقي أو حكم ديكتاتوري أو حرب مع عدو خارجي، ما يجعل القارئ يتساءل وهو يرافق هاتيك النسوة على دروب آلامهن: بمَ تختلف معاناة هذا الشعب عن سواه من شعوب العرب؟ وهل يتغير شيء إن وضعنا اسم دولة عربية أخرى مكان «العراق»؟ ألن تكون المعاناة واحدة والنتائج واحدة؟ لا يصعب كثيراً الوقوع على هذا النوع من الحكايات يرويها أفراد الجاليات العربية. والروائية، بحكم عملها في الإعلام، وإقامتها الطويلة في لندن، قادرة على ملاحقة أخبار مواطنيها، وتسجيل سِيرهم وحبكها، لكنها بالتأكيد لاحظت كم تتشابه القصص والنهايات، لذلك جاءت حكايات بطلاتها متداخلة، يبدأ القارئ بفصل ما وهو لا يعرف إن كان عن «جمانة» أو «بلقيس» أو «خلود». ففي النتيجة، ليست الأسماء والشخصيات سوى حجة للحديث عن العراق والشوق إليه كما يحلم به أهلوه، لا كما جعله حكامه ومستعمروه. مسألة أخرى تفرض نفسها على القارئ: ماذا فعل أولئك الذين غادروا العراق من أجل خلاص بلادهم؟ ولماذا عجزوا عن تأليف «لوبي» يسعى لإنهاء الوضع الشاذ في وطنهم؟ لا تتغاضى الكاتبة عن الانقسامات التي فرزت المهاجرين إلى لندن بحسب أعوام هجرتهم أو مراتبهم الاجتماعية أو ميولهم السياسية، ف «العراقيون في لندن هم خلطة العراق العجيبة، فئات وأفكار وعقائد وخلفيات اجتماعية متباينة. قبل سقوط حكومة صدام كان ما يقسم العراقيين شيء واحد، الرضا أو عدم الرضا عن صدام... بعد السقوط اختلفت الأمور، وظهرت تباينات طائفية لم يعرفها العراقيون من قبل. ظهرت أحزاب وميول لم يكن العراقيون أنفسهم يظنون أن العراق سيفرزها. كانوا يختلفون على شيء واحد لا يتغير، اليوم تعددت خلافاتهم وتلونت وظهرت وجوه جديدة صار لها أصوات بدأت تعلو إلى حد الإزعاج في العراق وخارجه» (ص141)، كأن الكاتبة بذلك تقفل باب الأمل على تحسن ما قد يلوح في أفق الوضع العراقي، فلا من بقي حارساً البيوت والأرض يقدر على إحداث تغيير، ولا من هاجر وانغمس في إيقاع الحياة الغربية حافظ على إيمان، ولو ضئيلاً، في إمكان إعادة بناء الوطن. وما موت المرأة (خلود) التي أصرت على العودة، سوى تحذير واضح من أن أرض دجلة والفرات لم تعد تصلح إلا للمدافن، ف «في العراق سقط الديكتاتور وحل محله وحش مدمر أطلق كل الشرور من صندوق باندورا «السومرية»، وفرض رغباته على البلد وأهله» (230). ثم تمعن الروائية في تأكيد موقفها الحاسم حين تجعل «عادل» زوج المرأة القتيلة، يفكر في أنه لن يستطيع أن يضع زهرة على قبرها في العراق، وأنه سيموت في لندن ويدفن فيها، وربما تأتي حفيدته «هلينا» وتضع على قبره زهرة إذا ظلت تحن لجدها العراقي «عادل النعماني» (ص230). وكم قاسية هذه ال «إذا» الشرطية غير الجازمة بشيء! الرواية التي أنهت «سلوى جراح» كتابتها في ربيع 2011، لا تقع تحت تأثير الربيع العربي، الذي لم تسمح له الكاتبة بأن ينشر آمالاً مخادعة في وجدان شخصياتها وقرائها. فعملها الإعلامي الذي ترك بصماته على لغتها ذات العبارات القصيرة والنفَس التقريري، لا يمكن أن يسمح لها بالتأثر بأحلام الشعراء أو عوالم الروائيين المتخيلة. ومن هنا مصدر لهجتها الروائية المباشرة، بلا زينة أو تجميل أو تردد، فتقول عن إحدى بطلاتها: «مع الوقت، بدأ موضوع آخر يؤرقها. شكل المرأة العراقية. النساء في العراق يرتدين الحجاب الذي لم تعرفه المرأة العراقية من قبل. فلم تكن أمها محجبة ولا حتى جدتها. لم يكن في العراق محجبات. كانت المرأة العراقية ترتدي العباءة الشهيرة وتلبس تحتها آخر صيحات الموضة. كانت المرأة العراقية معروفة بأناقتها واختيارها لملابسها بذوق، والعباءة كانت زياً شعبياً وليس حجاباً تختفي تحته النساء وكأنهن خجلات من كونهن نساء» (ص161). والعراق في الرواية يرتبط على كل حال بالنساء العاشقات المجتهدات المقاومات المتعلمات اللواتي يتأقلمن مع أي مجتمع تجبرهن الظروف على التواجد فيه. ومع كل ذلك، لن ينلن من وطنهن سوى الغربة والترمل والثكل والاستشهاد، ولن تبقى بغداد مهد الحضارات العظيمة، ف «كل ما فيها اغترب عن جذوره وأصله وكأنه نبتة تحولت من شجرة ورد إلى شجرة عليق، وكأن دجلة صار بلا شطآن» (ص228). ومع فيضان الدم في بلاد ما بين نهري «أرض السواد»، هل يمكننا أن نعتب على «بلقيس» الثكلى حين تصفها الكاتبة قائلة: «الذاكرة شيء وأرض الواقع شيء آخر. بغداد لم تعد لها مذ دفنت في ترابها ذاك الوجه الباسم. تريد أن تعود إلى لندن، لبيتها، ولكل ما اعتادت، لكل ما يشيع في نفسها الطمأنينة» (ص224)؟ وهو موقف يختلف تماماً عن موقف الشاعر اللبناني غسان مطر، الذي قال حين اغتالت الحربُ وحيدته: «وكم قلت لا/ بلادي بلادي فلن أرحلا/ فما دام قبرك صار بلادي/ فلن أرحلا». ولكن أليس كلا الموقفين دليلاً على ثنائية الوطن والموت في بلاد العرب!