الميل إلى الماضي والتاريخ قاد الباحث الدكتور رشيد الخيون إلى درس الفلسفة الإسلامية وقراءة التاريخ الإسلامي، وهو يعتبر أن العصر السابق أكثر حرية من عصرنا. وبالتالي يصعب على أي مفكر مناقشة قضية دينية من دون اتهامه بالكفر. الخيون يصبح عاجزاً عن الكتابة، كما يقول، بلا شاهد تاريخي أو فكرة غابرة متصلة بأخرى حاضرة. في أبحاثه تعوّد الخيون تفريغ ذاته من خوف الكتابة، كما أنه يلتزم الحياد والاهتمام بالمعلومة وتدقيقها وتحقيقها. كتب عن المعتزلة في قضية خلق القرآن، وكذلك عن إخوان الصفا، وألّف موسوعة الأديان والمذاهب في العراق. تأثر الخيون بالمفكر حسين مروة من خلال كتابه «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية». ويرى الخيون في حوار مع «الحياة» أن كثيراً مما يكتب اليوم في إطار «أدب الرحلات» لا ينتمي إلى هذا الأدب. إلى نص الحوار: لماذا اخترتم دراسة الفلسفة الإسلامية في أطروحتكم لدرجة الدكتوراه؟ وهل كان بدافع ميل داخلي منكم؟ - نعم، كان للميل إلى الماضي والتاريخ دوره في اختيار هذا التخصص، فمن يريد دراسة الفلسفة الإسلامية عليه أن يسبقها بقراءة التاريخ الإسلامي، فوجود أفكار تتناسب مع أفكار عصرنا، مع الفارق الزمني بألف عام، شيء يجذب الاهتمام، وكانت الانطلاقة من ذلك الشعور، وقد تأثرت بالعلامة حسين مروة، وكتابه الرصين «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية»، ومنه ثبتُّ على هذا التخصص، فكان تخصصي الدقيق «المعتزلة»، ومنها تفرعت إلى إخوان الصفا والحركات الإسلامية عموماً. كانت الفلسفة الإسلامية بعيدة التناول عنا، حتى بدأت تظهر الكتب المحققة، والدراسات التي تناولت الأصالة والمعاصرة، ففتحت عيني على عالم واسع وبحر غزير، أخذ ينكشف أمامي على حلقات، حلقة تأتي بأخرى، وكلما زدتُ في القراءة والبحث في مجال التراث زاد شغفي وجهلي، وكأني لم أقرأ شيئاً، وذلك لعظمة ما يقع تحت اليد، مِن مقالات ونظريات، فتحت عيني على ضرورة ربط الحاضر بالماضي، وهذا حدد أسلوب كتابتي، حتى أصبحت عاجزاً عن الكتابة بلا شاهد تاريخي، أو فكرة غابرة متصلة بأخرى حاضرة. أصدرت العديد من الكتب في التراث الإسلامي والأديان وأدب الرحلات، ما الاهتمامات الأقرب لك؟ - الأقرب لي، وهو أساس ما أكتب، التراث الإسلامي الاجتماعي والفلسفي والكلامي، فما كتبته في «عمائم سود»، و«شموس التهائم والنجود»، و«أبوظبي.. تصالح العقل والثروة» الذي يرقى إلى أدب الرحلة، الذي للأسف أخذ البعض يبسطه إلى كتابة الانطباعات، بينما من المفروض أن يشمل تاريخ المدن ووصفها وما تشتهر به، وما فيها من سياسة واجتماع. أود أن أقول ملاحظتي، أن أدب الرحالات يكاد يندثر، بسبب تبدل وسائل المواصلات، فمَن كان يسافر عبر البر والبحر يجد ما يقوله عن الطريق، وما يمر به من معالم وعجائب، مثلما كتب الحموي في «معجم البلدان»، وما كتبه ابن حوقل في «صورة الأرض»، وما كتبه المسعودي في «مروج الذهب» وغيرهم. أما الآن فقد صار السفر عبر الطائرة، فلا يترك مجالاً لكتابة رحلة. كذلك لا أرى أن أي مسافر يتحدث عن خواطره صار صاحب «رحلة»، فهذا تبسيط وتسفيه لهذا المجال من الأدب. لهذا لا أعتبر ما كتبته، في انطباعات ومشاهدات، مِن أدب الرحلات، فأدب الرحلة ليس مذكرات أو انطباعات، إنما تخصص له مجاله. نعم، من حق أي إنسان أن يُسجل يومياته في السفر أو الإقامة لغرض الدراسات، إلى غير ذلك، لكن لا يجب أن يُعد هذا مِن أدب الرحلات، بلا ضوابط. ما الأسس التي تتبعها في البحث؟ - أولاً المعلومة وتدقيقها وتحقيقها، وثانياً تفريغ الذات من أي حساسية تجاه ما أكتب وأبحث، في أي شكل من الأشكال، لك ليس معنى هذا أنه لم يكن لي موقف واتجاه أعتقده الصحيح، بشرط ألا يخل بالمعلومة، في شكل من الأشكال، فإذا توافرت المعلومة والحياد يظهر البحث رصيناً ومفيداً، في هذا تعلمت مما قرأته عن القضاة وشروط فصلهم بالقضايا، أن يكون مرتاحاً لا غاضباً ولا جائعاً ولا مهموماً، وبالفعل اضطراب الجانب النفسي يؤثر في الباحث، ولا أقول الكاتب، لأن العديد مِن الروائيين والشعراء نفعهم الاضطراب النفسي، وربما العقلي، في أعمالهم. هل تعتبر نفسك حيادي عند البحث في المقدسات؟ - لا أستطيع التحديد لأن القارئ هو من يحدد ويحكم، وأقصد القارئ الواعي، فهناك قراء يقرأون بالمقلوب وهؤلاء لا يحتكم إليهم، لكن قضية الحياد عندي قضية مهمة جداً بل ومقدسة، لأنني أدعي، أو أعتبر نفسي، خالياً من ميول حزبية أو طائفية، كنت يسارياً قبل نحو 30 عاماً، ومع ذلك لا يمكن أن أبحث قضية تتماشى لصالح ميولي، لكن لدي ميل ضد الطائفية ميل إلى السلام ميل إلى التسامح، ومن حقي إبراز النصوص التي تدعم التسامح وتدعم الحرب على الطائفية، وهذا لا يعني أنني غير محايد. بماذا تفسر الاختلاف في دراسة التراث الإسلامي؟ - هناك من يشغله التوثيق، أو كتابة التاريخ، وآخر يشغله التصحيح، وآخر يشغله التنكيل بهذه الجماعة أو تلك، فتراث الملل والنحل كُتب بهذه الطريقة، ومازال هناك مَن يضع الجاحظ مثلاً خصماً، فلا يذهب إلا إلى الكتب التي ذمته، وكذلك الحال بالنسبة للمتنبي. كذلك يبقى الاختلاف بالهدف من درس التُّراث الإسلامي، بين البحث عمّا ينفع الحرب والكراهية، ومَن يبحث عن تراث التعايش، كي يبرزه للتخفيف مِن تشدد الحاضر، أما إذا سألتني عن المنهج الفكري، فالاختلاف واضح بين المدارس، خذ مثلاً ثورة الزُّنج أو الحركة القرمطية، أو الدولة الأموية والدولة العباسية، فستجد ميول الباحث واضحة. أما إذا سألتني ما هو منهجك الفكري في كتابة أو درس التُّراث فأقول لك: ليس لدي منهج فكري، لأن التراث لا يخلقه الباحث إنما مثل التركة الفكرية، فكيف أُحدد موقفاً ضده مخالفاً للمعلومة، فهذا الكذب بعينه. ما المباح في دراسة الأديان والمذاهب الفكرية وما هو غير المباح؟ - لا أظن أن هناك مباحاً وغير مباح في درس الجماعات، فمن المفروض أن كلَّ أهل ديانة ومذهب يعتزون بهما، وإلا كيف يعتنقونها عقيدة دينية وهم لا يرتضون الكتابة عنها، وأقصد الكتابة المعتدلة، لا الكتابة المنحازة. إلا أن المباح واللامباح يتعلق بالكذب والتشويه، والكتابة عن أهل هذا الدين أو ذاك المذهب بلا علم ودراية، أو الأخذ من أفواه النَّاس أو المضادين لهم، وهذا ما فعله العديد مِن الكُتاب، ووقع فيه مؤرخون معروفون. كتابك «جدل التنزيل» رافقه الجدل والخلاف؟ - كتاب «جدل التنزيل» كان نواة لتحقيق مخطوطة كُتيب الجاحظ «خلق القرآن»، فلما قرأت المخطوطة احتجت لقراءة تاريخ القرآن، وخلال البحث لم أستطع إخراج الكُتيب أو الرسالة كما هي، لأنه يجب معرفة لماذا ظهرت مسألة «خلق القرآن»... قسمت الكتاب إلى بابين وعدد من الفصول، وقد جاءتني الكثير من الردود على الكتاب، وكأنهم بها يريدون منعنا من قراءة أي شيء عن تاريخ القرآن الكريم، وكأنني بالبحث فيها قد تجاوزت الخط الأحمر، بينما هو الكتاب الذي بين أيدي الناس، وهناك كتاب للسجستاني عنوانه «المصاحف». كانت مسألة «خلق القرآن» قضية عقائدية، فالمعتزلة يعتقدون أن الكتاب نزل على مصالح العباد، وهذا معناه أنه محدث، أي أن الله أحدثه بمعنى خلقه، وليس قديماً، بينما أهل الحديث وغيرهم اعتقدوا أنه قديم في اللوح المحفوظ، ومَن يؤمن بالجبر يؤمن باللوح المحفوظ، فكل الحوادث التي حصلت وستحصل مسجلة في اللوح المحفوظ، وهي فكرة تنفي وجود الجدل، وتنفي التطور أيضاً، وقد وجدت أن العصر السابق أكثر حرية من عصرنا، فاليوم من الصعب مناقشة قضية دينية من دون أن ترجم بفتوى التكفير. لم آت بأي معلومة من غير علماء المسلمين أنفسهم، وقد نوقش موضوع القرآن كثيراً وكتب كثير عن القرآن. موسوعة «الأديان والمذاهب في العراق» ما أبرز ما تناولته فيها، ولماذا هذه الموسوعة؟ - إنه باختصار محاولة للاحتفاظ بالعراق المتعدد الأديان والمذاهب، فتزايد الهجرة بين أهل الأديان والمذاهب، الأقل عدداً، خشيت من فراغ العراق منها، وأسرعت إلى تسجيل وجودها قبل خسارة العراق لها وخسارتها من العراق، وكان الكتاب ثلاثة أجزاء وعنوانه: «الأديان والمذاهب بالعراق ماضيها وحاضرها» (مركز المسبار 2016). في كتابك «إخوان الصفا المفترى عليهم إعجاب وعجب»، لماذا اخترتم هذا العنوان؟ مع التوضيح للقارئ ما هو الإعجاب بهم؟ وما هو العجب منهم؟ - مَن يطلع على مقدمة الكتاب يجيب على هذا السؤال، فالإعجاب ما كتبوه في رسائلهم مِن علوم وآراء ناضجة، والعجب مِن وجود نوع من الشعوذة في بعض الرسائل، السحر وقراءة الحظ إلى غير ذلك، لكن في كل الأحوال الإعجاب فيهم أكثر مِن العجب منهم. لماذا تعد المصادر التي تتكلم عن أثر ذوي البشرة السوداء في حضارتنا الإسلامية قليلة؟ - كتابي «أثر السُّود في الحضارة الإسلامية»، الصادر عن مكتبة الملك عبد العزيز (2016)، ليس الأول إنما هناك مَن كتب في الشعراء السود، وفي العنصرية بسبب اللون، وعن العبودية إلى غير ذلك، ومع ذلك قليلة جداً قياساً بالكتابة عن سواهم.