في أيّار (مايو) 1989، قبل عقدين بالتمام، شرع كابوس التوتاليتاريّة السوفياتيّة وتوابعها يتداعى، فتحقّق للبشريّة المكسب الكبير الثاني بعد انهيار النازيّة إثر الحرب العالميّة الثانية. صحيح أن بولندا كانت، كعادتها، السبّاقة. إلاّ أن هنغاريا، وفي مثل هذه الأيّام، كانت تمدّ جسر التحرّر إلى سائر شعوب "الكتلة الاشتراكيّة"، وتوفّر الصورة التي بهرت العالم على شكل مئات من الآلاف يفرّون من أقفاصهم وسلاسلهم. ففي هنغاريا، في أيّار، ثُقب الستار الحديد بانتزاع حريّة السفر عبر النمسا، فتدفّق اللاجئون ومحبّو الحريّة والهواء من كلّ نوع، وباشروا يصدّعون القالب المحكَم الإغلاق. ثمّ تجرّأ الألمان الشرقيّون فزحفوا، عبر هنغاريا فالنمسا، إلى الشطر الغربيّ زحف من يسعى إلى السماء، جاعلين ذاك الحائط الكريه بين البرلينين لزوم ما لا يلزم. وما لبث الحائط، الذي أريد منه حجب الضوء عن الألمان الشرقيّين، أن تحوّل ردماً وهدايا تذكاريّة. قبل ذاك، كانت هنغاريا، التي اكتوت بقمع ثورتها في 1956، تنظر بحذر وتنتظر ما قد يبدر عن الزعيم السوفياتيّ الجديد ميخائيل غورباتشوف. لكنّ الأخير الذي كان أعلن، منذ 1986، سياسته في "الغلاسنوست" (الانفتاح)، أوحى عزوفه عن كلّ تدخّل ورغبته في الانسحاب من كلّ تورّط. وإذ شقّ التململ الهنغاريّ طريقه إلى داخل الحزب الحاكم، فكّر الشيوعيّون الأكثر تشدّداً بإعلان حال الطوارئ وتجديد الإمساك، عبر طغمة عسكريّة، بالسلطة. بيد أن الشيوعيّين الإصلاحيّين بقيادة "الغورباتشوفيّ" إيمري بوزغاي، بادروا إلى قطع الطريق عليهم، إذ "الشعب ليس معنا، وينبغي، ولو متأخّرين، أن نكون نحن مع الشعب". وكان من الظواهر اللافتة في الحزب الهنغاريّ أنّه احتوى أعلى نسبة من الموقنين باستحالة إصلاح الشيوعيّة من الداخل من دون أن يغادروا صفوفهم الحزبيّة. هكذا، وبتشجيع الإحباط الشيوعيّ، فضلاً عمّا يحصل في موسكو وفي وارسو، حيث تداعى النظام البولنديّ سلماً وتسلّمته نقابة "التضامن"، كرّت السبحة. ففي أوائل أيّار انعقد مؤتمر خاصّ لحزب العمّال الاشتراكيّ الهنغاريّ، أي الشيوعيّ، وذلك للمرّة الأولى منذ مؤتمر 1957! هناك، سقطت الهرميّة الحزبيّة المتخشّبة، فأزيح جانوس كادار عن الأمانة العامّة و "رُقّي" الى منصب رئاسة الجمهوريّة الاحتفاليّ والشكليّ. وأزيح، كذلك، أربعون في المئة من أعضاء المكتب السياسيّ واستُبدلوا بعناصر شابّة أقلّ شيوعيّة وأكثر ليبراليّة. وانفتح الباب للإصلاحات، لا سيّما حريّة السفر وقيام الأحزاب التعدّديّة التي أعلن عن أوّلها صيف ذاك العام حاملاً إسم "منبر الحريّة". وذاك التحوّل الضخم الذي باشرته هنغاريا هو ما تحتفل بذكراه البشريّة المحبّة للحريّة اليوم. أمّا في هذا الجزء من العالم، جزئنا، فلا يزال سوء الفهم الكبير يعيق علاقتنا بالحريّة. فهي، كما تقول التجارب جميعاً بما فيها تجربة أوروبا الشرقيّة، لا تأتي إلاّ مع قدوم الغرب واقترابه. ونحن نريد الحريّة من دون الغرب، وهذا مستحيل نتحايل على استحالته إمّا بالتخلّي عن الحريّة، أو باختراع معنى آخر لها لا يفهمه إلاّ نحن!