1972) أحد الذين قاوموا الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بالإبداع، وبالمواقف السياسية من خلال الكتابة في الصحف. لم يكتف بالمُشاركة في الحياة الثقافية الخاصة بالشأن الفلسطيني، وإنما انضم إلى صفوف أحد التنظيمات اليسارية الفلسطينية، التي كان شعارها «الكفاح المسلح»، وقد عبر عن ذلك التوجه في إهداء مجموعته القصصية «أرض البرتقال الحزين»؛ «إلى من استشهد في سبيل أرض البرتقال الحزين، وإلى من لم يُستشهد بعد». فكلمة «بعد» التي ختم بها إهداءه تعبير قاطع حول رسالته المتعلقة بضرورة النضال، مع تقديم المزيد من الشهداء، وموقفه الصارم المبدئي ضد الاحتلال الإسرائيلي، يفسر لأي باحث لماذا اغتالته الاستخبارات الإسرائيلية في 8 تموز (يوليو) 1972. وفي المجموعة القصصية نفسها، قصة بعنوان «أبعد من الحدود»؛ بطلُها ممن يؤمنون بأنّ الوطن ليس للبيع. ويربط ذلك بالتعريف العلمي لحق «المواطنة» حيث قال للمُحقق: «أنا لستُ صوتاً انتخابياً، فأنا لستُ مواطناً، وممنوع من حق الاحتجاج، فماذا سأخسر إذا بقيتُ وراء المزلاج؟»، أي استمراره في السجن. وهكذا، قدم كنفاني من دون مباشرة، رؤيته حول الاختيار بين أمريْن: نفي المواطنة أم الاعتقال؟ فكان مع الاعتقال حتى لا يذوب في الواقع الاستسلامي. وهذا الشاب - نظراً إلى وعيه السياسي- يسخر من الدعاية الفجة حول التعاطف مع اللاجئين، «زوروا مخيمات الفلسطينيين قبل أنْ ينقرضوا»، ويسخر من التنظيمات الفلسطينية التي تحصل على التمويل، ولكنها غير جادة في المقاومة، فهم يعملون «على المزايدات الشعبية، وأصبحوا مؤسسة من مؤسسات الحياة السياسية التي تدر الربح يميناً ويساراً». واختتم هذا الشاب أقواله للمحقق ب»أنت يا سيدي تستطيع أنْ تشنق واحداً منا، فتربي بجسده الميت ألفاً من الناس دون أنْ تحمل هماً أو خوفاً أو تأنيب ضمير... أية حياة هذه؟ الموت أفضل منها». وراء البوابة في قصة «الأفق وراء البوابة»، يأخذ البطل أخته الصغيرة لتعيش معه في عكا، وكلما سألته أمه عن أحواله وأحوال أخته يقول لها: «نحن بخير»، وبعد عشر سنوات يشعر بتأنيب الضمير لأنه كان يكذب على أمه، إذ أن جيش الاحتلال هاجم عكا، حاول الدفاع عن أخته وعن نفسه، ولكن بندقيته كانت مثل العصا. ماتتْ أخته وأشفق على أمه. اعتقد أنّ الكذب عليها أرحم من صدمة الفجيعة. ولكن هل سيدوم الكذب إلى الأبد؟ في نهاية القصة يرى ضرورة تحرير نفسه من الكذب ومن القدر الأسود الذي حمله وحيداً، فيعترف لأمه أنّ أخته في قبرها الذي لا يجد من يضع عليه زهرة في كل عيد. في قصة «ثلاث ورقات من فلسطين»، الورقة الأولى «ورقة من الرملة»، الراوي يتذكر طفولته عندما كان في التاسعة من عمره، ومشهد جنود الاحتلال وقد حاصروا الأهالي وأجبروهم على رفع أذرعهم ووقوفهم في الشمس، ورؤيته لبعض الفتيات الفلسطينيات والدم ينزف منهن. والورقة الثانية من الطيرة عن العجوز الفلسطيني الذي حارب اليهود في الطيرة وفي حيفا. ويسخر «من الجالسين على مقاعد مريحة ويسألون: كيف ضاعت فلسطين؟»، كما سخر من قادته الفلسطينيين الذين يرفضون أي صوت غير صوتهم، ولا أي رأي غير رأيهم. ويضيف: «إنّ المسؤولين لم يحافظوا على أبطالهم ولم يكونوا على معرفة بأصول المعارك. أهملونا وشبهونا بالجزارين ولذلك هم لا يحتاجون إلينا». ويقول أيضاً: «إذا كان الفدائي لا يعرف أصول الحرب، فبماذا نحارب؟ وهل نحارب بمحاضر جلسات جامعة الدول العربية؟». ويتساءل: «هل نحارب بالورود؟»، ثم يقول لابنه: «هذا هو ما أضاع فلسطين. وهل علينا أنْ نحارب اليهود كما يفعل محررو الجرائد في غرفهم؟». والورقة الثالثة من غزة. الراوي كره غزة وقرّر الهجرة إلى أميركا، وقبل الهجرة زار أمه وزوجة أخيه في الكويت، حيث كانت ابنة أخيه الطفلة تعالج بعد اعتداء إسرائيلي وحشي. دخل على الطفلة ومعه هدية؛ البنطلون الذي طلبته منه. أشارتْ إلى ساقها المبتورة. اتخذ القرار السريع الحاسم: سيعود إلى غزة، بل إنه أرسل إلى صديقه الفلسطيني المقيم في أميركا يطلب منه العودة إلى فلسطين. الولاء في القصة التي أخذتْ عنوان المجموعة، الراوي يعمل على ترسيخ قيمة الولاء للوطن الفلسطيني في وجدان وعقل ابنه، فيحكي له بداية كارثة الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948، وذكرياته عن المقاومة الشعبية، وعن الجيوش العربية التي دخلتْ فلسطين وانهزمتْ. وعن «البلاغات التي خدعتنا»، كما بثّ في ابنه روح التسامح وذكَر له تعصب بعض رجال الدين وسماحة بعضهم. وأنه في المدرسة كانت توزّع على التلاميذ الصور الملونة التي كانت تمثل الرب يشفق على الأطفال ويبتسم في وجوههم. واختتم حديثه مع ابنه قائلاً إنه كلما ابتعد عن الدار، كان يبتعد عن طفولته. وقصة «قتيل في الموصل»؛ عن طالب أردني كان يدرس في جامعة بغداد. وهذا الطالب كان صديقاً لغسان، فكتب القصة بعد اغتياله هناك. في تلك القصة فضحٌ لأدعياء التقدمية سواء من الأنظمة أو بعض الأحزاب. ويبدو أنّ هذا الطالب كان يمتلك رؤية سياسية ناضجة تعي مفردات الواقع، حيث عندما سأله الراوي: ألستَ تريد الرجوع إلى فلسطين؟ قال: «حينما تعبرون الحدود إلى فلسطين سوف أكون خلفكم. أنا صرصور صغير سأحتمي بأظلال فيلة هانيبال... إنني أخاف على الثورة من التقدميين المُنحشرين في الفنادق. وأنّ بغداد غرقتْ في الزيف، رغم أنّ الموصل رفضتْ الدود الزاحف عليها من بطن الأرض. وأنّ الصراصير تتحكم في مصير أخيل وأخيل لن يموت». فكانت النتيجة أنْ تلقي دفعات من رشاش أحد أصدقائه في ظهره. كتب غسان تلك القصة سنة 1959، وهكذا كان المبدع الراحل يمزج القضية الفلسطينية وهمومها بالواقع العربي، ولكن في شكل أدبي رفيع.