قرر وليد جنبلاط نقل مواجهته المستجدة مع المسيحيين في لبنان الى صعيد جديد يتمثل باللاجئين الفلسطينيين، أولئك الذين نسي الزعيم الدرزي قضيتهم طوال أكثر من عقد من الزمن، فقرر اليوم أنه الوقت المناسب، لا للمطالبة بحقوقهم الانسانية، بل لتظهير مشهد انقسام ينسجم مع سيره الحثيث نحو موقع مستجد. لا شك في ان جنبلاط في اختياره الموضوع والتوقيت كان بالغ الذكاء، لكن الاختيار أيضاً كان بالغ التعبير عن قدرته على ابتذال أي شيء في سبيل إنجاز مهمة عودته الصعبة الى حيث يرغب. بالغ الذكاء، لأنه يُدرك ان موضوع المطالبة بحقوق الفلسطينيين في لبنان قابل لأن يعيد فرزاً يشتهيه زعيم المختارة، ويسعى إليه، وقابل لأن ينتج مشهد انقسام ينسجم مع طموحاته، فيسقط المسيحيون في فخ «مخاوفهم»، وتتقدم حساباتهم الضيقة على منسوب الحساسية حيال القضايا الانسانية التي يمكن ان تُمثلها هنا حقوق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وهكذا كان، فقد وقع المسيحيون في الكمين الذي نصبه لهم زعيم المختارة الذي لم يكن يهدف من طرح قضية حقوق الفلسطينيين الى أكثر من ذلك. أما عن وصفنا له بأنه، في اختياره الموضوع لطرحه في مجلس النواب، بالغ التعبير عن قدرة جنبلاط على ابتذال أي شيء في سياق تحوله وانعطافه، فمرده الى يقين معظم اللبنانيين بانعدام حساسية الرجل حيال حقوق الفلسطينيين، وعدم تردده في الإقدام على الإساءة الى هذه الحقوق عبر زجّها مجدداً في سياق انقسام داخلي، وتوظيفها في مشهد لا يهدف تظهيره الى أكثر من دفع فواتير في حساب جديد. ما أسهل ان يُستدرج المسيحيون في لبنان الى الموقع الذي وجدوا أنفسهم في قلبه، في تلك الجلسة النيابية التي أُجّل فيها النقاش بقضية الحقوق الانسانية للاجئين الفلسطينيين. فهم أصلاً في وضع لا يُرشحهم لأكثر من التداعي والتخبط. لكن ليس هذا فقط ما كشفته تلك الجلسة النيابية، اذ ان الأهم كان انعدام حساسية المسلمين في لبنان عبر ممثليهم المنتخبين لقضية هذه الحقوق، وذلك عبر قبولهم الاندراج في انقسام رسمه رجل لم يُعرف عنه في العقدين الأخيرين على الأقل انه فائق الحساسية حيال معضلة اللاجئين الفلسطينيين في بلده. المشهد في مجلس النواب في ذلك اليوم كان بالغ التعبير عن ذلك. نواب مسيحيون «خائفون» من منح مجموعة من اللاجئين المسلمين حقوقاً مدنية هي أقل من الحد الأدنى للشرط الانساني، ونواب مسلمون لا يتورعون عن توظيف هذا «الخوف» لادانة أقرانهم المسيحيين! أما الحقوق نفسها فلا قيمة لها في وعي أحدٍ. ومشكلة الفلسطينيين مع مضيفيهم اللبنانيين، ليست فريدة من نوعها. فالقضية الفلسطينية اليوم هي مدار انقسام عربي وإقليمي جل أطرافه غير معنية بموضوعها الفعلي. والأتراك أنفسهم، بصفتهم قادمين جدداً الى هذه المعضلة، لم يتورعوا، من اليوم الأول لدخولهم، عن الاندراج في معادلة التوظيف هذه. «حقوق الفلسطينيين» بصفتها ذريعة لما لا يُحصى من الطموحات التي لا تمت بصلة الى حقيقة أوضاع الفلسطينيين... في لبنان هي اليوم منصة انطلاق وليد جنبلاط الى الحضن السوري، وفي تركيا هي بين أمور كثيرة مادة تنافس بين الجيش والحكومة الاسلامية، وفي إيران فرصة لأحمدي نجاد لأن يُرسل سفناً يَعرف أنها لن تصل الى غزة لكنها «تُلهب المشاعر» التي يرغب في توظيفها في ضائقته النووية. لعل ما قالته مونيكا، وهي ناشطة أوروبية، تعمل في مجال الإغاثة في مخيمات اللاجئين في لبنان عن ظاهرة تجهيز سفن المساعدات الى غزة، أشد تعبيراً عن هذه المعادلة، اذ تساءلت بسذاجة وحيرة عن سبب عدم تحرك السفينة التي تُعدّها نساء لبنانيات للتوجه الى غزة محمّلة بالمساعدات، الى مخيمات لبنان التي تضم سكاناً يحتاجونها. قالت مونيكا حرفياً: «أنتم تحبون فلسطينيي غزة وتكرهون فلسطينييكم». لكن ارسال المساعدات الى الفلسطينيين في مخيمات لبنان، أو الى غزة عبر معبر رفح المصري الذي فُتح منذ أزمة السفن التركية، سيعني ان الهدف من وراء ارسالها مساعدة الفلسطينيين، أما الإبحار عبر السفن فيعني أشياء أخرى ليس من بينها إيصال المساعدات، تماماً كما يعني طرح وليد جنبلاط قضية الحقوق في البرلمان اللبناني الاستدراج السهل للمسيحيين الى موقع الاعتراض على هذه الحقوق. لا يستطيع المراقب إغفال هوية منظمي «رحلات البحر الى غزة» في أعقاب الرحلة التركية الأولى. كلها، أو معظمها رحلات توظيف في مجال آخر. في ايران أحمدي نجاد يريد إرسالها بحماية الحرس الثوري الايراني، وفي لبنان تتولى السيدة سمر الحاج (زوجة القائد السابق للأمن الداخلي علي الحاج) أمر تنظيم رحلة على متن سفينة الى غزة. الدلالات غير الفلسطينية كبيرة على هذا الصعيد، وإغاثة السكان في القطاع آخر أمر يُفكر به المنظمون. لكن كل هذا كان أقل تعبيراً عن انعدام الحساسية حيال الأوضاع الفعلية للفلسطينيين من مشهد البرلمان اللبناني في يوم تأجيل قانون منحهم الحقوق هذا الأسبوع. قاد المُطالبة وليد جنبلاط، فيما شعر رئيس الحكومة سعد الحريري بأنه معني بإيجاد مخرج للمأزق. فهو معني، من جهة، بقبول المطالبة، لكنه، من جهة أخرى، شعر أنه مستدرج الى فخ من نوع آخر: فجنبلاط يسعى منذ زمن الى دفعه الى الموقع الذي اختاره في مواجهة المسيحيين. والأخيرون أدركوا ان رفضهم مُطالبة جنبلاط يجنّب كل طرفٍ منهم تُهماً قد يستحضرها الطرف الآخر. اذا قبلت القوات، سيعني ذلك اتهام العونيين لها بالقبول بتوطين مزيد من السنة في لبنان، وإذا قبل العونيون فسيعني اتهام القوات لهم بتضييع حقوق المسيحيين على مذبح التحالف مع «حزب الله». الشيعة من جهتهم كانوا في تلك الجلسة في موقع شديد الحساسية، وقبولهم بالمطلب الجنبلاطي لم يعن انخراطاً في الحملة على رافضيه، اذ تتقدم مصلحتهم في التحالف مع ميشال عون حقوق الفلسطينيين وحقوق غيرهم. كم تبدو قضية الأوضاع الانسانية المتردية للاجئين الفلسطينيين سواء في غزة أو في لبنان بعيدة من كل هذا المشهد الراقص.