لم يكد لبنان يستيقظ من وهلة الموت الغدّار الذي حصد روح الفتاة الصغيرة بتينا رعيدي بسبب رصاصة طائشة مصدرها جنازة قريبة من منزلها الكائن في منطقة جبيل (شمال بيروت) أواخر آذار (مارس) الماضي، حتى سجّلت أكثر من حادثة للسبب عينه في نيسان (أبريل). فالطفل ساري سلّوم (3 سنوات) كان على شفير الموت حين أصابته رصاصة طائشة دخلت من العنق لتخرج من الظهر في منطقة دير كيفا بقضاء صور (جنوب)، وكذلك الأمر بالنسبة للطفل السوري ح.أ (10 سنوات) وقد أصيب بطلق ناري طائش في رأسه في بلدة الفرض بوادي خالد (عكار - شمال). وتُضاف إلى هذه الحالات عشرات القصص عن أطفال وكبار توفوا نتيجة رصاص طائش ناتج من تفاخر بالسلاح في فرح أو جنازة، أو لظهور زعيم سياسي معيّن على وسائل الإعلام، أو حتى بسبب تحويل بعض الأماكن إلى نقاط تدريب للرماية من دون اعتماد أي من معايير السلامة في الاعتبار. وكلّ ذلك يستدعي التوقّف ولو لحظة للتساؤل: ألا يزال في الإمكان اعتبار الإصابات بالرصاص العشوائي حالات فردية للتعامل معها على هذا الأساس؟ أم أن الأمر تخطّى ذلك ليكون فعلاً ثقافة مجتمعية متجذّرة تحتاج إلى أكثر من تحقيقات قضائية وتوقيفات للحدّ منها؟ قضايا بلا جواب في كلّ قرية وبلدة ومدينة لبنانية، هناك قصص عن الرصاص الطائش لم تعرف خواتيمها. وإذا كانت هذه الظاهرة لفتت الانتباه أخيراً إلى أن أطفالاً صغاراً يتوفون نتيجتها، فهناك قضايا أخرى عمرها أكثر من 10 سنوات ولم يسجل فيها أي تقدم من ناحية تقصّي الجناة. ففي بلدة جنوبية، يخبر أخو إحدى ضحايا الرصاص الطائش كيف أنّه اضطر ليقوم باستقصاءاته الخاصة عن الأشخاص الذين كانوا يحملون سلاحاً ويطلقون الرصاص في جنازة قريبة من منزلهم، ما أدى إلى إصابة أخته الشابة في أوائل العشرينات من عمرها. وقد استطاع الوصول إلى عدد من الأسماء وسلّمها إلى مسؤولين أمنيين ليستطيعوا أقله معاقبة من كان لا مبالياً إلى هذا الحدّ بأرواح كلّ من حوله. لكن حتّى الآن، يؤكّد شقيق الضحية أنّ إطلاق الرصاص لا يزال معتمداً في مختلف المناسبات من دون رقيب أو حسيب. عموماً لا تنحصر هذه الظاهرة في منطقة واحدة، أو أنها حكر على مجموعة أو طائفة معينة، بل إنّها منتشرة على مساحة لبنان لتكون قضية وطنية بامتياز. وما يزعج أهل الضحايا أكثر أنّ هناك نصوصاً قانونية تجرّم إطلاق الرصاص. فوفق المادة 75 من المرسوم الاشتراعي الرقم 137 الصادر عام 1959 والمعدّل في 1966، «أنّ كل من يُقدم على إطلاق النار في الأماكن الآهلة أو في حشد من الناس، من سلاح مرخص أو غير مرخص به، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات». وماذا لو تحوّل إطلاق النار إلى جريمة وحالة قتل؟ هنا يعاقب الشخص ضمن سياق القتل غير المتعمد، وكأنّ الشخص الذي يطلق رصاصاً لا يعرف أنّه سيعود ل «يهبط» من جديد ويصيب شخصاً لا ذنب له إلا أنه وُجد في الوقت والمكان غير المناسبين. إعادة تكوين المفاهيم ما الذي يشعر به مُطلق الرصاص العشوائي؟ وعمَّ يعبّر؟ وهل يدرك العواقب المحتملة لفعلته؟ كثيرة هي الأسئلة التي تُطرح عن هذا المجرم المستتر الذي يمكن أن يبرّئ نفسه في كل مرة باعتبار أنّ غيره أيضاً يطلق الرصاص. وبالتالي لا يمكن تحديد أي شخص مسؤول عن مقتل الضحية. لكن الحدّ من هذه الظاهرة لا يكون إلا بفهم الجانب النفسي لهؤلاء. وهنا تشير المعالجة النفسية جانين خوري إلى أن الظاهرة حين تكون عبارة عن ثقافة سائدة، لا يكون القانون وحده كافياً لردعها، خصوصاً في موضوع إطلاق الرصاص، لأن ذلك يحصل من أكثر من شخص ما يصعّب الاعتقالات والتوقيفات والمحاسبة. بل تكون هناك حاجة لتوعية تبدأ من البيت وتصل إلى المدرسة، وبعدها الجامعات وكل مؤسسة يمكن الدخول إليها لمخاطبة الأجيال الصاعدة، مع إعادة تكوين المفاهيم الثقافية عند الأهل. وتؤكد خوري أن هذه الثقافة نابعة من افتخار كل رجل لبناني بوجود السلاح في منزله وتوريثه لأهله، وهذا يعتبر جزءاً من المنظومة الفكرية. وقد تعزز ذلك خلال الحرب الأهلية، وتطورت النزعة إلى حمل السلام مع الشعور باللاستقرار الدائم بسبب الوضعين الأمني والسياسي. وفي كل فرح أو حزن يطلق رصاص، يكون ذلك نوعاً من المفاخرة أو إثبات الوجود، والأمر يختلف عند ظهور زعيم على الشاشات الإعلامية، حيث يكون الهدف توجيه رسالة إلى الآخرين عن قوة جمهوره. وتجد خوري صعوبة في تلقّف هذه الظاهرة والحدّ منها من دون العمل الاجتماعي التوعوي من جهة، وتطبيق القانون كما يجب مع تنظيم حمل السلاح والتخفيف من الفلتان الحاصل في هذا المجال من جهة ثانية.