ما إن يمسك الشاب بيد آخر على «رأس» حلقة الدبكة، حتى ينطلق سيل من الرصاص احتفاءً. الشاب هو العريس، ومطلق الرصاص ليس إلا الأخ المبتهج بزفاف أخيه المتمايل على وقع أغاني الدبكة. القصة لا تنتهي هنا. فتحية الأخ لأخيه تفتح شهية شبان آخرين لن يرضوا بأن يكون حبهم للعريس أقل من حب أخيه له: ابن عمه، فصديقه، فمراهق أبى والده إلا أن يحثه على تحية العريس بدوره. يرفع المراهق رشاشاً استله من سيارته، ويقف بين الجموع مطلقاً رشقات يهتز معها ساعده، ولا يرفع إصبعه عن الزناد إلا لينصت كما الجميع الى صرخة تنطلق من شرفة مجاورة، معلنة إصابة امرأة ب «رصاص الابتهاج». ما ذكر ليس مشهداً فريداً يخرق قانون الأعراس السائد في بلدات البقاع. بل هو مشهد بات منذ نحو ثلاثة أعوام طقساً إلزامياً وعلنياً يرافق موسم الأعراس وغيرها من المناسبات التي تستدعي الاحتفال. وعلى رغم أن عادة «رصاص الابتهاج» كانت سائدة وغير مضبوطة في السنوات التي سبقت عام 1990 (انتهاء الحرب الأهلية)، فإن الأعوام التي تلت عززت سلطة الدولة في شكل كبير في منطقتي البقاع الغربي والأوسط (على اعتبار أن البقاع الشمالي له خصوصيته في ما خص العلاقة مع القوى الأمنية)، وحلت المفرقعات النارية بأنواعها مكان الرصاص. غير أن جديداً طرأ على الساحة البقاعية، وأعاد العمل بالقاعدة القديمة. فصار يندر أن يقام فرح شعبي في أي من بلدات البقاع الكثيرة من دون أن يتبارى المقربون باستخدامهم الأسلحة بأنواعها المختلفة والتي تتفاوت بين رشاش كلاشنيكوف في مناطق معينة، وبين قاذفات ب7 في مناطق أخرى أكثر تفلتاً من سلطة الدولة. أما الحصيلة، فغالباً ما تكون عدداً من الضحايا ينقلون الى مستشفيات قريبة بناء لتسوية مع مطلق النار، حيث يعالجون على أنهم أصيبوا برشقات حجارة أو حوادث متفرقة في معظم الأحيان. أما سبب عودة سريان العادة القديمة، فيردها مصدر أمني - قضائي في المنطقة الى التغييرات التي أدخلتها حرب تموز والأحداث الأمنية المتتالية منذ عام 2005 على الواقع اللبناني، ويقول: «بعد الحرب زاد توزيع السلاح في شكل كبير. كل فريق سياسي أو حزب صار يسلح أنصاره، كما زاد إقبال الأفراد على شراء الأسلحة من الأحزاب ومصادر أخرى، بسبب الخوف من الآخر». ويكرر المصدر سؤالاً بات يسمعه من كثيرين لتبرير حملهم أو اقتنائهم السلاح: «إذا كان ذاك الفريق يملك مدافع وأسلحة ثقيلة في شكل علني، لماذا لا يحق لنا أن نقتني أسلحة للدفاع عن أنفسنا؟». ويضيف أن «مفهوم الدولة ذاته اختلف منذ عام 2006 عما كان قبله». وعن دور القوى الأمنية، يجيب المصدر ذاته: «في الغالب نحن متشددون. ما إن نعثر على مطلق النار، حتى نصادر سلاحه ونسجنه وبعد فترة يخرج من السجن»، مشيراً الى أن «فترة العقوبة تتفاوت بين ما إذا كان السلاح مرخصاً أم غير مرخص، وكيفية استخدامه»، وفق ما هو مذكور في قانون الأسلحة والذخائر اللبناني. وتنص المادة 75 المعدلة من قانون الأسلحة والذخائر على أن «كل من أقدم على إطلاق النار في الأماكن الآهلة أو في حشد من الناس من سلاح مرخص أو غير مرخص، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة، أو بإحدى هاتين العقوبتين ويصادر السلاح في جميع الأحوال. ويحال المرتكبون إلى المحكمة العسكرية». لكن المشكلة التي تواجه الأمنيين في تلك المنطقة، هي وفق المصدر نفسه أن «القوى الأمنية لا يمكنها أن تراقب كل الأعراس والمناسبات الاجتماعية في المنطقة، وهي لن تتحرك إلا إذا ما أبلغت عن وجود أمر ما. في أحيان عدة، يتصل أشخاص بأرقام الطوارئ، طالبين تدخل القوى الأمنية، غير أن عناصر الدورية في العادة لا يجدون الشخص المسلح، لأنه يكون توارى عن الأنظار، وفي هذه الحال لا يمكنهم إلا أن يرفعوا تقريراً الى غرفة العمليات الخاصة بهم، التي بدورها تبلغ المخفر، وعلى المشتكي أن يتابع الملف لدى المخفر، وهو ما لا يحصل عادة». أما الحلول التي يمكن أن تساعد على إنهاء هذه الحال الشاذة، فيقول المصدر نفسه: «هناك حلول كثيرة. منها مثلاً تحديد مهلة زمنية، يسمح خلالها لمن يصرح عن سلاحه بأن يحصل على ترخيص مجاني لحمل السلاح مدته عام مثلاً. في هذه الحال تكون الدولة أحصت السلاح الموجود على أراضيها، وهذا يسهل عملنا في تعقب المجرمين. كما يصبح السلاح نفسه قانونياً»، مشيراً الى أن «اقتناء السلاح ليس شيئاً محرماً، في أميركا يشترونه من المتاجر، لكن وفق نظام معين وشروط يجب مراعاتها». ويؤكد أن البلد في حاجة الى «استراتيجية متكاملة لإصلاح المواطن في شكل نظامي»، لافتاً الى أن «الأمر يبدأ من التربية المدنية البدائية وصولاً الى أن يتحول كل مواطن الى شرطي». غير أن نظرية تحول المواطن الى شرطي، لا يبدو أنها تغري كثيرين ومنهم مطلقو رصاص الابتهاج. إذ يسأل أحدهم عن الضرر الذي يسببه رصاص يطلق في مناسبات اجتماعية تعبيراً عن الفرح وعلى مرأى من الجميع، والذي «يختلف عن السلاح الذي يستخدمه آخرون للقتل وافتعال المشاكل، من دون أن يعترض سبيلهم أحد بسبب الغطاء السياسي الذي يرعاهم». وتسجل التقارير الأمنية ارتفاعاً ملحوظاً في نسبة المحاضر المنظمة بجرم إطلاق نار في منطقتي البقاع الغربي والأوسط بين أعوام 2004 و2005 و2006. كما تسجل ارتفاعاً متزايداً بين عامي 2007 و2008. فعام 2007 نظم 82 محضراً بجرم إطلاق النار، أوقف على أثرها 20 شخصاً، بينما في عام 2008، نظم 207 محاضر، وأوقف 57 شخصاً. وحتى 26 تشرين الأول (اكتوبر) 2009 نظم 100 محضر، وأوقف 21 شخصاً.