في الثانية والثمانين من عمره، اتخذ ليو تولستوي قراراً بأن يهجر بيته وزوجته وأولاده وأن يعيش هائماً في المدن، متلفعاً بصقيعها. كانت تلك الخطوة الأخيرة في مسار حياته التي انشطرت بين صورتين: الكونت تولستوي الأديب المرموق، وتولستوي المسيحي الفوضوي النزعة، الذي مال في مرحلة لاحقة إلى إعطاء تعاليم المسيح تفسيرات خاصة كرست نزعات يوطوبية في الإنسان، كالأخوّة، تكريس الخير، محاربة الشر بالأخلاق، والتسليم بأمر الرب. مال تولستوي منذ بداية حياته نحو كتابة البيوغرافيا. تلك الضرورة لعمل تسوية نهائية مع الذات توفر للمرء خيارات جديدة. هكذا كرسته السيرة الذاتية التي كتبها مستطلعاً فيها المرحلة المبكرة من حياته كطفل ومراهق وشاب. سيرة ستترك الباب مفتوحاً أمام حياته، مشرعاً أمام رحلته الإبداعية بين الكتابات الفلسفية والرواية والقصة والعظات الدينية، ليعود لاحقاً ويغلق هذا الباب بكتاب «الاعترافات». سيقضي من اعتُبر أعظم كتّاب روسيا ميتاً في إحدى محطات القطار كأي متشرد، غير عابئ بالشؤون الدنيوية. موت لاءم إلى درجة مذهلة الشخصيات التي كتبها متأخراً، والتي تمتاز بنزعة زاهدة، اشتراكية، مثالية وهشة، لا ترى الحياة كمعضلة، وإنما كفرصة ربانية للتطهر وتجاوز الآلام والخسارات المادية، فلا تموت إلا وهي راضية عن أعمالها أو مسلّمة في أسوأ الأحوال بالقدرية المرسومة من أجلها. كان ذلك بعد «يقظة روحانية» اختبرها في أواخر حياته، لتنعكس في موضوعات كتاباته، مقدّمة النزعات السلمية لدى البشر على كل الرغبات الأخرى. كتابات ستترك بدورها أثراً عميقاً لدى كل من ألمهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ. مع ذلك، فإن تولستوي لم يكن أنهى نزاله مع سؤال الموت، نزال حسمه بطريقة موته نفسها، كما لو أنه يقول إن الإنسان يستطيع على الأقل أن يموت حيثما شاء في بعض الأحيان. مسلِّماً هنا بالقدرية المطلقة، على غرار عدد من شخوص مؤلفاته القصصية والروائية، كالنوفيلا، التي كتبها تحت عنوان «مصرع إيفان إيليتش»، حيث الموت يتدخل في مخططات المرء، وأحياناً يرمي أولى ملامحه في أشد لحظات المرء سعادة. الموت، كما الحب والفقد والألم، كليشيهات ثابتة، لا تكف عن تجديد نفسها. كليشيهات كبيرة، تلتصق بنا من دون أن نستطيع تفكيكها بصورة فعلية، أو فهمها فهماً نهائياً. ولعل جاذبيتها السوداء أحياناً تكمن في هذه الحقيقة بالذات، حقيقة السؤال الذي يدور حولها، وهي حقيقة تعوض عن فشل الإنسان وجدليته المستمرة إزاء معنى الموت أو ماهيته أو ما بعده. نوفيلا إيليتش، تأتي ضمن كتاب «مصرع إيفان إيليتش وقصص أخرى» (دار الجمل، ترجمة سامر كرّوم). مختارات تضيء على الجانب المؤمن من تولستوي، الذي يضخّم هذه العلاقة الجدلية بين الإنسان وفحوى وجوده، مشخصناً بصورة مستفزة وجهة نظره، عبر جعل أبطال قصصه كائنات مأزومة وإنجيلية في آن، تخضع لمرسوم قدري مستسلمة للفناء، جاهزة للمثول أمام البارئ. يعاكس تولستوي هنا نزعته الواقعية التي ميزت عمليه الأكثر أهمية «الحرب والسلم» و«آنا كارينينا». فالشخصيات تصبح محكومة بمنطق تبشيري، في واقع متوتر ومُختَزَل، بدلاً من جعلها تتنفس في فضاء الخطأ الإنساني وتعددية التجارب كالعبث والمجون. كما لو أن تولستوي يعيد تقييم حياته. فيسأل على لسان إيفان إيليتش، الموظف القضائي المرموق، والذي يداهمه المرض في أكثر لحظات حياته سعادة، إذا ما كانت الحياة التي عاشها خطأ بخطأ. هذا إلى جانب تكتيكات يتبعها إيليتش لمناورة الموت أو استبعاده، كأن ينسحب مثلاً نحو ماضيه، ليصبح أقرب إلى متفرج يستمتع برؤية حياة بعيدة تجري لشخص آخر لا يعرفه. قبل أن يبدِّد وعيُه بحتمية هلاك الجسد كل هذه الأسئلة. فيصبح وعياً مخيفاً، يحل كأزمة طارئة، كنموذج للقلق الإنساني وغريزة الإنسان للتشبث بقشة الوجود. حكاية إيليتش مجرد بيئة أدبية شيّدها تولستوي لتحريك الأسئلة الفلسفية والمتقاسمة في كل الأجيال حول الموت. تجارب كالألم والموت لا تعاش ولا تُجس إلا فردياً رغم أنها تؤلف المصير الجماعي للبشر. نرى مثلاً أن المجتمع الذي يحيط بإيليتش يعيش نكراناً لمأساة الرجل. من الصعب أن يحاط مريض مهدد بالموت بأشخاص متعالين. والأسوأ لو كان من بين هؤلاء الطبيب المعالج نفسه. إيفان، المريض الذي يمتزج فيه الخوف والأمل معاً، لا أحدَ -بما في ذلك زوجته وابنته- يبذل جهداً للتعاطف معه ولو حتى عبر شفقة. ذلك أن الناس لا يريدون أن يروا الموت، لا يريدون أن يكونوا جزءاً من تجربة رجل يحتضر. كأن لا وقت لديهم لذلك. إنهم يسابقون الحياة، ويجاهرون بذلك حول امرئ يسابق الموت وحيداً.