يعرض حالياً في دور العرض في مصر أحدث أفلام الفنان أحمد حلمي ذي الشعبية الواسعة «عسل إسود» من تأليف خالد دياب وإخراج خالد مرعي. يلقى الفيلم إقبالاً جماهيرياً كبيراً، حيث زامن عرضه انتهاء الامتحانات، وبداية الإجازة الصيفية. ونعرف أن أحمد حلمي حاز عبر مسيرته السينمائية على إقبال الجمهور وتقدير النقاد. فهو يحسن اختيار مواضيع أفلامه بحيث لا يخترق السياج الأخلاقي الذي يحمى المجتمع، كما يقدر التقاليد الراسخة، ويؤكد على الأسرة كقيمة اجتماعية. لقد عنى النجم أحمد حلمي بتنوع الشخصيات التي قدمها في أفلامه ولم يعتقل فنه في قالب جامد في تلك الشخصيات التي يؤديها بأسلوب رصين بعيداً عن الهزل والمساخر. في «عسل إسود» يفجر أحمد حلمي الكوميديا من حال الحيرة والدهشة التي تنتابه لحظة مواجهته للخلل الذي أصاب سلوكيات الأفراد فضلاً عن الأداء الحكومي. عقب رحيل والد مصري العربي (أحمد حلمي) تملكته الرغبة – فجأة – في العودة إلى أرض الوطن، مصر التي غادرها وهو بعد صبي في العاشرة من عمره لتمتد إقامته في المهجر عشرين عاماً، يتخير المخرج نقطة انطلاق الأحداث من الطائرة التي تحلق بمصري فوق السحاب في رحلة العودة إلى الوطن حيث يبدي تشوقه لقضاء شهر رمضان مستمتعاً بفوازير نيللي!! والجو احتفالي بالشهر الكريم. يصطدم مصري بالبيروقراطية التي تحكم نظام العمل في إدارة الجوازات منذ لحظة وصوله لمطار القاهرة حتى يتلقفه سائق الميكروباص الظريف لطفي لبيب والذي لا يتوانى عن استغلاله إلى أن يوصله إلى الفندق فيستعير المحمول الخاص به ويبيعه زجاجة الماء بثلاثين جنيهاً وساندوتش الفول بستين جنيهاً. وفي مكتب الاستقبال في الفندق يفاجأ مصري بتباين المعاملة بين الضيف الذي يحمل جوازاً أميركياً والآخر إن حمل جوازاً مصرياً، ومن ساعتها ومصري يدور في دوامة من المفاجآت. كامل العدد في «عسل إسود» قدم كل من المؤلف والمخرج (المونتير أيضاً) مسحاً شاملاً للأحوال في القاهرة المعاصرة ذلك خلال طرح باسم له طابع تسجيلي يجنح في بعض مشاهده للتطويل (مشهد تعذيب مصري في قسم الشرطة). خلال السياحة دان الفيلم البيروقراطية وتدني الوعي البيئي حين يلجأ سائق المكروباص إلى التبول في الطريق العام، كما دان الفساد الحكومي ممثلاً في تفشي الرشوة، ثم تطرق إلى ازدحام الطرق بكافة أنواع وسائل النقل. ولم تسلم العملية التعليمية من انتقاده؛ فأفرد مشهداً للسخرية من أداء المعلم، إضافة لضياع حقوق الإنسان حيث تستعرض الكاميرا وقفات الاحتجاج أمام مجلس الشعب، كل ذلك إضافة إلى أن جرم العنف الذي يدمغ علاقة الشرطة بالمواطنين. كانت صالة العرض على غير العادة كاملة العدد حيث تنطلق بين جنباتها ضحكات الصغار والكبار، وكان لكاتبة هذه السطور سؤال حول تصميم شخصية مصري التي يؤديها بخفة ظل ملحوظة النجم أحمد حلمي. إذ أنه من المؤكد أن كل من نشأ وتلقى تعليمه في بلاد متقدمة كأميركا لا يسافر إلى مكان ما قبل أن يكون معلوماً له بكل تفاصيله، فإن هناك من البرامج والخرائط والنشرات ما يحمي المسافر من أن يقع ضحية للجهلة والنصابين والمستغلين. وعليه لا يمكن أن يشتري المصري زجاجة الماء بمبلغ ثلاثين جنيهاً ولا يغفل عن جواز سفره الأميركي والذي تم بواسطته حجز غرفته في الفندق في القاهرة، ويكون من غير المقبول أن يتخلص مصري من جوازه المصري بالطريقة الصبيانية كما شاهدنا على الشاشة وفي ذات الوقت يكون في غنى عن سؤال عابري السبيل عن الطريق للأهرامات. ذلك كله يجعلنا نتشكك في أن الشاب مصري قادم فعلاً من أميركا لنعتبر أنه قادم من الأرياف. أما عن طوافه في شوارع وأزقة القاهرة بحثاً عن بيت والده القديم فهو إن دل على شيء فيدل على أنه قادم من وراء الزمن. وما يحيل الشك إلى يقين في ما يخص نشأة مصري في أميركا عند استعانته بالوسائط الحديثة كما (اللاب توب) ليسجل عليه كافة البيانات التي تتطلبها فترة إقامته في القاهرة، فلا يتوقف على سبيل المثال أمام كشك على الطريق ليجرب عدداً من الاتصالات الخاطئة ويتلقى ردوداً سخيفة حتى يوفق في الاتصال العاشر بسائق الميكروباص. وهنا يوقن المرء أن مصري شخصية ساذجة أو عابثة أو أي شيء آخر غير أنه هابط علينا من أميركا، فالكوميديا لا تتولد عن اللامعقول بقدر ما تتولد عن الإغراق في المنطق. وفي النصف الآخر من الفيلم يقدر لكل من المؤلف والمخرج كشفهما خلال السياق عن المعدن النفيس للشعب والذي تستقيم حياته بالتكافل والتعاون والقناعة والرضا. يهتدي مصري إلى بيتهم القديم ويلتقي بصديق الطفولة سعيد (إدوارد) فترحب به أم سعيد إنعام سالوسة وتستضيفه في شقتهم الصغيرة وتعامله كأحد أبنائها حتى أنها تمنحه عيدية في العيد، ينعم مصري بالدفء العائلي الذي تشيعه أم سعيد بين أفراد الأسرة، فهي تحتضن أبناءها مهما بلغت أعمارهم أو تغيرت أوضاعهم الاجتماعية. فتكفل ابنها سعيد العاطل من العمل على رغم تجاوزه سن الثلاثين، وتقبل ابنتها وزوجها عبد المنصف في أغرب حالة زواج مع إيقاف التنفيذ، ووجه الغرابة أن تقع تلك الحالة في الأوساط المصرية الشعبية التي تحمي العلاقات الشرعية وتحرص على الإنجاب مع تدني دخل الأسرة! غياب المسلسلات يعيش مصري أجواء رمضان الكريم حيث توزع الصدقات وتمتد موائد الرحمن ويتعاون أهل الحارة على قضاء الحاجات. وفي بيت أم سعيد يتعاون الجميع على إدارة شؤون الأسرة ويجتمعون على مائدة الإفطار. وإن كان الفيلم قد غفل عن هوس الأسرة المصرية بالمسلسلات خصوصاً في رمضان يرافق سعيد صديقه في رحلة الحصول على جواز مصري. ويهون عليه الأمر حتى تفجر المفارقة الضحكات في الصالة بينما يشترك الجميع في عمل الكعك. وفي أول أيام العيد يخرج جميع أفراد الأسرة لتناول الغداء على شاطئ النيل.