منذ هيمنة حركة حماس على قطاع غزة، وانقسام الكيان الفلسطيني، بين الضفة والقطاع (2007)، وبين سلطة فتح وسلطة حماس، بات الفلسطينيون، على المستوى الداخلي، مهمومون بما يسمى عملية المصالحة، بين الفصيلين الكبيرين، وبإعادة اللحمة لكيانهم في الضفة والقطاع، ربما أكثر من همهم بمواجهة عدوهم. ومن دون التقليل من أهمية بذل الجهود لإنجاز عمليتي المصالحة والوحدة، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يصرف الانتباه عن العوامل التي أدت إلى حصول هذا الشرخ ورسخته في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية، فمن دون التعامل مع تلك العوامل لا يمكن معالجة نتائجها، بالطريقة المناسبة، ولا الحؤول دون إعادة إنتاجها مجدداً. طبعاً، يمكن اعتبار العوامل الموضوعية، وضمنها عجز الحركة الوطنية الفلسطينية عن انجاز أهدافها في مواجهة عدوها، على رغم مضي عقود عديدة على قيامها، في أساس الأزمة الفلسطينية القائمة، فهنا تكمن أزمة المقاومة والانتفاضة، وأزمة التسوية والمفاوضة، كما أزمة القيادة والبنية. مع ذلك فثمة عوامل ذاتية عديدة، أيضاً، أسهمت بدورها في ولوج الحركة الوطنية الفلسطينية بوابة الاختلاف والتنازع والانقسام والعنف الداخلي، ضمنها غياب آليات الحراك الداخلي الديموقراطي، وهشاشة المؤسسات السياسية المرجعية، وشيخوخة البنى الفصائلية، والاعتماد على الموارد الخارجية، والقابلية للتوظيفات السياسية الإقليمية. أما العوامل التي عجلت في ترسيخ واقع الاختلاف والانقسام الفلسطينيين، فتكمن أساساً في أفول ذهنية حركة التحرر الوطني، وطغيان ذهنية وعلاقات السلطة، وتآكل المجال الاجتماعي، في مقابل صعود ظاهرة المتفرغين (أو المحترفين) في الأجهزة السلطوية (لا سيما الأمنية و «الميليشياوية»). كما يمكن أن نسجل ضمن هذه العوامل انصراف الطبقة الوسطى (وضمنها المثقفون) عن البنى الفصائلية السائدة، وكلها تحولات أفضت إلى نكوص المشروع الوطني، أو إلى أفوله. ويستنتج من ذلك أن حل أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية من مدخل المصالحة، بين «فتح» و «حماس»، أو من مدخل إعادة اللحمة لكيان السلطة، أو من مدخل إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير، لا يغير من واقع الحال شيئاً، بقدر ما يخفف من الاحتقان السائد في الساحة الفلسطينية فقط. الآن، إذا تمعنّا في طبيعة البنى الفصائيلية، العاملة في الساحة الفلسطينية، فسنجد أمامنا حالة مريعة من النكوص. ففي حين كانت هذه البنى تقوم على التعددية، في تمثيلها لمروحة واسعة من التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية، إذا بهذه المروحة تتقلص اليوم، لأسباب ذاتية وموضوعية، إلى استقطاب حاد بين اتجاهين أو تيارين (فتح وحماس) أي التيار الوطني العام والتيار الديني (بمعناهما الضيق). وبينما كانت هذه البنى تعتمد على قطاعات الشباب (بما يمثله ذلك من الناحيتين المعنوية والجسدية) فإن معظم البنى الفصائلية تكاد تكون بنى هرمة (بالمعنيين أيضاً)، إذا استثنينا حركة حماس. ويمكن أن ننظر إلى مشكلة «فتح» من منظور آخر، أيضاً، فهذه الحركة لا تبدو قادرة، ولا راغبة، باستعادة روحها المتمثلة بكونها حركة وطنية تعددية أصلاً، وهي لا تبدو مستعدة لتجديد شبابها، واستعادة الحيوية الوطنية في أشكال عملها، بقدر ما تبدو أكثر استكانة لرتابة وضعها، ولواقعها كحركة سلطوية. وتدلل «فتح» على استمرائها هذا الواقع البائس بالنتائج المخيبة لمؤتمرها العام السادس، الذي كرس إعادة إنتاج البنى والعلاقات والذهنيات التي أدت إلى تآكل دورها، وتراجع مكانتها، والذي تمخّض أيضاً عن إضفاء الشرعية على «معسكرات» جديدة فيها. كما يمكن التدليل على ذلك بخبو الروح الوطنية في هذه الحركة، ما يترجم بسد الباب أمام البدائل والخيارات السياسية، واستمراء الارتهان لخيار المفاوضات (بدعوى أن لا بديل عن المفاوضات إلا المفاوضات). ومشكلة «فتح» أن هذا الارتهان يجري في ظل واقع دولي مفتوح على احتمالات وخيارات عدة (تدخل في باب المعقولية والواقعية السياسية)، في حين تقف موقفاً سلبياً او متفرجاً. وهو واقع تؤشر اليه التوترات بين إسرائيل والدول الغربية وضمنها الولاياتالمتحدة، وتفكك علاقات إسرائيل بتركيا، وتداعيات تقرير غولدستون وعملية اغتيال المبحوح بدبي، وحملات المقاطعة لإسرائيل، والغضب الدولي الناجم عن هجوم إسرائيل على سفن «قافلة الحرية»، وتضعضع الحصار على قطاع غزة، والتعاطف الدولي مع قضية الفلسطينيين. أما مشكلة حركة حماس فتكمن في ترددها في تعريف ذاتها، وتحديد مكانتها، بين كونها حركة دينية، أو كونها حركة تحرر وطني، وهو أمر ليس تفصيلياً، في قضية تحتاج إلى اجماعات وطنية وتعاطفات دولية كالقضية الفلسطينية، ولا سيما في سبيل مواجهة الأصولية اليهودية، وكشف محاولات إسرائيل تبرير ذاتها بالأيدلوجية الدينية. كما تكمن مشكلة «حماس» في مبالغتها في إضفاء الطابع الديني على الصراع ضد الصهيونية وإسرائيل، على حساب الطابع الوطني، واستهتارها بالتراث التاريخي للحركة الوطنية الفلسطينية. أيضاً، فإن مشكلة «حماس» تكمن في ضعف إدراكها بأهمية التعددية وقبول الرأي الأخر، في الساحة الفلسطينية، وهي كلها عوامل سهلت، وبررت، لها التحول إلى نوع من سلطة مهيمنة في شكل أحادي واقصائي في القطاع. ليس القصد من هذا الكلام ايجاد نوع من الإحباط إزاء الجهود الرامية لإصلاح ذات البين، بين الفصيلين والسلطتين، الممسكين بمصير قضية فلسطين وشعبها وحركتها الوطنية، وإنما القصد من ذلك لفت الانتباه بأن هذا الأمر لا يحل بمجرد قرارات وبيانات، ولا بتبويس اللحى، ولا بوساطة هذا الطرف أو ذاك، ولا حتى بالنيات الحسنة (إن وجدت أصلاً)، وإنما هذا الحل يتطلب أصلاً توافر الإرادة والوعي اللازمين لاستعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرر وطني، من دون مبالغات مضرة أو ارتهانات في غير محلها. المعنى من ذلك أن المسألة الفلسطينية اليوم باتت تجاوز قضية المصالحة، ووحدة السلطة، إلى مراجعة التجربة الوطنية، مراجعة جدية ونقدية ومسؤولة، وإلى تحديد ماهية المشروع الوطني الفلسطيني، بعد كل المتغيرات والتحولات والخبرات الحاصلة، وصولاً إلى تجديد البنى الوطنية، وبالأحرى إعادة بنائها، بما في ذلك إعادة تموضعها في مجالها الاجتماعي. ومن دون ذلك فإن الساحة الفلسطينية ستبقى في دوامة الاختلاف والتنازع والانقسام، كما ستبقى أسيرة حال الترهل والعجز عن أداء المهمات المنوطة بها. وباختصار فإن الأزمة الفلسطينية ليست مجرد أزمة خلاف بين فصيلين، إنها أزمة وطنية شاملة، أزمة بنى وعلاقات وسياسات، ومشروع وطني متأزم.