سريعاً شرّعت دولٌ عربية أبوابها أمام تركيا، «مستفيدة» من اعتداء إسرائيل الهمجي على ناشطين من بينهم أتراك ينقلون بحراً مساعداتٍ إلى قطاع غزّة، وقتل عددٍ منهم. تحوّلت دولة «كمال أتاتورك» عصباً مقاوماً. هي رسمت دورها العربي، منذ وصف رئيس حكومتها، خلال المنتدى الاقتصادي في «دافوس» العام الماضي، الدولة العبرية ب «المعتدية»، واختلف مع رئيس جمهوريتها. الترحيب بتركيا «وريثة الإمبراطورية العثمانية» - التي كادت تطوّق في احتلالاتها بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط - بانضمامها إلى «جبهة المقاومة» ضد إسرائيل، جاء سريعاً. قبل سنوات كانت تركيا تمنع مياه دجلة والفرات عن سورية والعراق، وتتشدّد في العلاقات مع الجوار، وتتحالف مع «محتلي» فلسطين، وتتطلع إلى الاتحاد الأوروبي، وتطوّق المدى الاستراتيجي العربي على الحدود مع إسرائيل. لكنّ أمراً ما أيقظ «الحنين» التركي إلى الضفة الجنوبية العربية للمتوسط. لا يمكن سياسياً التشكيك في موقف أنقرة تجاه إسرائيل، بخاصةٍ في نيات الحزب الحاكم، لكن لا يمكن إغفال دور الاقتصاد في الانقلاب الاستراتيجي الآتي من الشمال - الشرقي نحو العالم العربي. فمنتصف الأسبوع المنصرم، وقع وزراء خارجية تركيا وسورية ولبنان والأردن على هامش المنتدى الاقتصادي العربي - التركي في اسطنبول، اتفاقاً يلغي تأشيرات الدخول لرعايا هذه الدول ويُنشئ منطقةً للتبادل الحر في ما بينها. إذ قرّروا «إنشاء مجلس تعاون رباعي رفيع المستوى وإقامة منطقة حرة لتنقل الأشخاص والسلع». ويحتمل أن يسبق تطبيق فعاليات المنطقة الحرة، تلك التي اعتمدها العرب منذ تسعينات القرن الماضي. منذ الربع الأخير من القرن العشرين والاقتصاد التركي لم يستقر. عانت البلاد في اعوام 1994 و1999 و2001 من أزمات اقتصادية مريرة. تدهور سعر الليرة التركية بعدما تجاوز معدل التضخم 150 في المئة، واعتمدت أنقرة عملةً جديدة منذ أول 2005 خلال مرحلة استطاعت أن تحقق فيها معدل نمو سنوي قارب في المتوسط 7 في المئة بين 2002 و2008 عندما بلغ الناتج المحلي التركي 729 بليون دولار. لكن الأزمة الاقتصادية العالمية لم تستثنِ الاقتصاد التركي، شأنه شأن الاقتصادات الناشئة، فجذبته إلى مدار الركود الذي تسببت به، على رغم هيكل الإصلاحات الذي نُفّذ لتقويم بنية الاقتصاد وتعزيزها إثر انهياره العام في 2001. وهبط معدل النمو في 2008 إلى 1.1 في المئة وارتفع معدل البطالة إلى مستوى 15 في المئة وخسرت الليرة التركية ثلث قيمتها تجاه الدولار وارتفع معدل التضخم من 8.3 إلى 10.4 في المئة. وبات على الدولة التركية البحث عن استثمارات خارجية فلجأت إلى البنك الدولي الذي فرض شروطه في تحقيق إصلاحات بنيوية وضريبية وخفض النفقات الحكومية. ما دفع الحكومة إلى تعزيز توجيه الاستهلاك نحو قطاعات الإنتاج الأساسية وهي السيارات والآلات الكهربائية المنزلية والعقارات والبناء والنسيج. وعلى رغم أن تركيا جذبت نحو 23 بليون دولار استثمارات مباشرة في آخر عام قبل الأزمة، تراجعت إلى نحو 18 بليوناًً، وفيها أكثر من 22 ألف مؤسسة عالمية. فالبلد الذي يوجّه أكثر من 46 في المئة من صادراته نحو الاتحاد الأوروبي ويستقطب 66 في المئة من الاستثمارات المباشرة من بلدانه، يتوجّه إلى تعزيز علاقاته الاقتصادية مع الشرق الأوسط وأفريقيا. ففي وقتٍ تتراجع صادراته نحو أوروبا، تتضاعف نحو بلدان في الشرق الأوسط وأفريقيا منذ 2006. فالأزمة الاقتصادية والتشنج مع الاتحاد الأوروبي يدفعان أنقرة إلى إعادة تحديد مفهوم دورها الإقليمي وتقويته، من دون أن تتخلّى عن شركاء محتملين في القوقاز أو تتصالح مع أرمينيا، أو من دون أن تغفل أهميتها كجسر بين الغرب والشرق إذ تحقق من سياحتها نحو 30 بليون دولار سنوياً ينفقها نحو 38 مليون سائح، وتجبي من النقل رسوماً وضرائب فقط بقيمة 1.5 بليون دولار، علماً أن شواطئها تحتضن 156 ميناء وتملك نحو 900 سفينة تنقل أكثر من 11 مليون طن من البضائع سنوياً. لكن الأهم سواء للغرب الأوروبي أو للشرق العربي، أن تركيا تسوّق الآن دورها كوسيط، ليس سياسياً فحسب، بل تلعب دوراً اقتصادياً، بدءاً من إنشاء المنطقة الحرة التي أعلن عنها، مروراً بمكانتها في خطة ربطها بشبكة أنابيب الغاز مع الشبكة العربية ناقلةً الغاز من بلدانٍ عربية إلى أوروبا أو العكس. وهي مع خزانات المياه العملاقة على مجريي دجلة والفرات، تتحكم بهذه المياه نحو سوريا والعراق كونها بلد المنبع، تنعم بمياه العاصي بكونها دولة المصب. كما أنها تنقل النفط والغاز من بحر قزوين والعراق عبر خط باكو - تبليسي - جيهان للنفط، وخط أنابيب نابوكو للغاز. لكن خطوات تركيا نحو الشرق العربي مثقلة بالأسئلةً عن جلاء المستقبل، لعلّ واحداً منها حول إعادة علاقاتها بإسرائيل. قبل أيام طرحت تركيا شروطها للعودة: «اعتذار وتعويضات عن الضحايا». وبعد ماذا لو أنشأت الدولتان «منطقة حرة ثنائية» ...؟