لعل الفلاسفة الاغريق هم اول من قال بأن الدائرة اكمل شكل هندسي. فاتهم ان يضيفوا ان الكرة هي اكثر اشكال الدائرة كمالاً. فهذه المتدحرجة، الاكثر استجابة لقانون الجاذبية، والأكثر مراوغة لقوانين الاحتكاك، تأسر عقل العالم. وما من رقعة في المعمورة تخلو من ملاعب ونوادي ومدربين وقمصان، وحكام، باستثناء القطبين الشمالي والجنوبي. حتى هناك ابتكر لنا والت ديزني كرة قدم متخيلة في افلامه المتحركة ابطالها الفقمات، التي تجيد ركل الكرة بزعانف اقدامها، او بذؤابة انفها الكروية هي الاخرى. حمى الكرة، تضطرم ناراً كل 4 اعوام في ادغال العالم، وتبلغ اوجها في البلدان المشاركة، كما في البلد المضيف. هذه اول مرة تتحول قارة الجوع والاوبئة، افريقيا، الى موئل كأس العالم، في البلد الذي دفع افدح الاثمان في العالم الحديث: جنوب افريقيا. كرة القدم، شأن الملاكمة، كانت لعبة الأزقة والحواري الفقيرة في لندن الصناعية، التي ابدع شارلز ديكنز في تصوير اسمالها. وبقيت القمامة مزدراة من الارستقراطية التي تمارس رياضات اخرى، نخبوية الغولف مثلاً. وما ان خرجت الكرة من ازقة لندن، حتى اخذت طريقها الى ازقة المدن الأوروبية الكبرى، في محاكاة للاصول. لم تكتسب اللعبة شعبيتها الا مع مجتمع الاتصال الجماعي الكبير، بعد الحرب العالمية الاولى، اي عصر الاذاعة، والسيارة والرحلات الجوية، الذي حل محل عصر الجريدة والحصان والقاطرة. بقيت اللعبة أوروبية، ثم صارت أوروبية - لاتينية، بعد انتقالها الى اميركا الجنوبية. هاتان هما القارتان العجوزتان اللتان احتكرتا اللعبة، تاريخاً، ومهارة، وفناً، وصناعة. كرة القدم – الفن ابداع جسدي، ومهارات فرد، ونظام عقل، خارج حدود الطبقات، والاعراق، والاقوام، يبدعه الافريقي القادم من الادغال، كما الفرنسي القادم من الحضارة. لكن اللعب سرعان ما تحول الى مزيج معقد من العلم (الطب الرياضي مثلاً) والخبرة العملية والمهارات المكتسبة والموروثة. وكرة القدم - الصناعة اعقد من ان يلم بها حساب. فثمة الاعلانات، وحقوق البث، وشراء وتسعيرة اللاعبين، وتذاكر الدخول الى الملاعب، وبيع صور اللاعبين، والرحلات الجماعية للمشجعين، فضلاً ثمن العربدة في الحانات والشوارع وقبل ايام من بدء المونديال طلعت علينا الجزيرة بأتاوة فادحة تفرضها على رياضة الفقراء. وان لم يكن ذلك كافياً فثمة شركات المراهنات. قبل يوم من الافتتاح (الخميس الماضي) بلغ حجم المراهنات في لندن بليون جنيه استرليني، تتوزع على الفرق المفضلة التالية: اسبانيا، البرازيل، الارجنتين وايطاليا. هناك «وطنيون اغيار» راهنوا على الفريق الانكليزي، من باب التعصب لا من باب الامل. انكلترا، مخترعة كرة القدم لم تنل كأس العالم الا مرة واحدة يتيمة في مونديال نظم على ارضها عام 1966، وهو اول مونديال تنقل التلفزيونات وقائعه (ليس مباشرة) بل تسجيلات تلفزيونية، واطن انه اول بداية كونية لكرة القدم بفضل الشاشة الصغيرة ثم بفضل الستالايت. ونجوم الكرة اليوم اساطير كونية بحق، تتراكض وراءهم شركات صنع الاحذية الرياضية، وكولونيا الحلاقة، والمشروبات الغازية. البيبسي كولا مثلاً تحتكر كل الكبار من هنري الفرنسي الى كاكا البرازيلي، مروراً ببكهام الانكليزي، وهلمجرا... لكن نجومية كرة القدم سريعة العطب. فاللاعب في حاجة الى عقد من السنين كي يسطع، وبعد عقد ينطفئ الى غير رجعة. وان عاد فعلى مقاعد التدريب، شبه منسي، شبح من ماضيه المتواري. ولكل جيل نجومه. نجوم الخمسينات اختفت بالكامل: دي ستيفانو، بوشكاش، خنتو، ستانلي ماثيوز. اما جيل الستينات فان اسماء قليلة بقيت منه، لعل بيليه هو اوفرها حظاً. من الجيل الثاني ما زالت اسماء مارادونا وكرويف، وزيكو تشع من الماضي. من حسن حظ اللعبة الكروية انها تستجيب لمتطلبات عصر السرعة، عصر «الوجبات السريعة» و «القهوة الجاهزة» والطعام المعلب، فلا تجد لاعباً لا يدخل لعبة «رجوع الشيخ الى صباه» طائعاً. تكاد موتيفات المونديال ان تغمر الشوارع والاسواق، قبل شاشات التلفزيون، في أوروبا وافريقيا. لعل العالم العربي هو الاستثناء. والاستثناء العربي الوحيد هو لبنان. اعلام المشاركين في المونديال تغمر واجهات المقاهي، والمطاعم، وترفرف فوق السيارات الخصوصية. ثمة مبان تزدان واجهتها بعلم على طول الواجهة. اكثر الاعلام انتشاراً: الارجنتين، البرازيل، ايطاليا، المانيا. ثمة اعلام انكليزية بدت يتيمة. شاهدت مرتين علماً جزائرياً. العلم الاسباني يتكاثر. ثمة مسارب ظاهرة واخرى خفية لهذا الاهتمام. اعرف ان الطبقات الوسطى اللبنانية، هي الأكثر سفراً والاكثر هجرة منذ اواخر القرن التاسع عشر. السفر في الثقافة العربية مغامرة مدهشة، مأثرة لن يجترحها سوى سندباد، بري او بحري. (والسندباد كلمة هندية الاصل تعني حرفياً يعيش، او بترجمة محورة يحيى او يحيا!)، اللبناني مغامر سفر بالفطرة. ولهذا السندباد المعاصر صلات بكل القارات، بما فيها قارات الاوبئة، صلات حياتية حقة، فثمة اقامة، وصلة تواصل، وذكرى، واولاد او احفاد في كل بقاع الارض. يرفع البعض راية ذلك البلد الذي اليه ينتمي بصلة الهجرة، والاستقرار، بنوع من وطنية ثانية، الى جانب الوطنية اللبنانية. وثمة من يرفع الراية اعجاباً وتضامناً. وثمة من لا يدري «لماذا يرفع اية راية؟». هو «الجو العام»، المونديال في كل مكان، وهي «مرة كل اربع سنوات». اللبناني كوزموبوليتي الطباع، على رغم ارومته القروية، بل لربما بسببها، وهو يندمج بهذه الغبطة الكونية سريعاً. اللطف في هذا الكرنفال ان صبايا الجيل الجديد يبدين شغفاً مايني يتزايد بكرة القدم، على عكس نساء جيلي، فهن يكرهن كرة القدم، كراهية «تبول الرجال» في الازقة (ايام زمان). هذه البهجة تعم بضعة بلايين من سكان المعمورة، وتكاد ان تكون اكبر نعمة من نعم الحداثة. فها هنا يحول المنافسون راياتهم الى قمصان، وغضبهم الى حماسة، وعدوانيتهم الذكورية الى عدو متسارع، وفوضاهم الى نظام. تتحارب الامم بالفن لا بالسلاح باللاعبين لا بالجنود، من دون ان تفوت فرصة تذكيرنا بالماضي العنيف لخصومات الامم حين تنفلت قطعان «السكن هيد» خارج الملاعب هجوماً بالقناني، او يبدأ الركل المقصود للخصوم داخلها. لكنها لحظات استثناء من القاعدة.