لا يُحتسب تاريخ وجود المسيحيين في بلاد الرافدين من تاريخ المسيحية نفسها، وإنما هم أحفاد البابليين والسريان، ممَنْ تقبلوا دعوة المبشرين الأوائل، بدءاً من حدياب، حيث شمال العراق، في القرن الأول الميلادي، أي قبل أن تصبح المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية البيزنطية بأكثر من قرنين. وبحكم انهيار الدولة الآشورية ثم البابلية الأخيرة على يد قورش الفارسي، وعدم اكتراث الزرادستية أو المجوسية بالتبشير الديني، توسعت المسيحية، وكانت كنيستها الأولى في عاصمة الساسانيين الشتوية المدائن، وظلت مكاناً للجاثليق حتى خلافة المهدي بن المنصور (ت 169ه)، حين انتقلت إلى بغداد. ولما انقسمت المسيحية في بيزنطة إلى مذاهب تأثر مسيحيو العراق بالنسطورية، وأتاح لهم الملوك الأكاسرة اتخاذها مذهباً، بحكم الخلاف بين الإمبراطوريتين، الرومانية والساسانية. ولم يكن لمسيحيي العراق موقف سلبي من دخول العرب المسلمين، واستفادوا من قانون الذمة، إلا أن ذلك القانون كان يضيق أو ينفرج باختلاف نوازع الولاة، فمنهم مَنْ أتاح لهم الحرية الدينية، والدخول في خدمة مؤسسات الدولة. عموماُ، مرت قرون والمسيحيون يعيشون في العراق، ونادراً ما تجد، خارج المؤثر السياسي، أو شدة الحاكم، اضطهاداً أو منازعة بين الناس. والتاريخ يذكر موقف المسيحيين، عند سقوط بغداد على يد المغول، أن المسلمين المطلوبين لجأوا إلى منازل مواطنيهم المسيحيين، وذلك لما لقادة الإيلخانيين من صلات بالمسيحية. والتاريخ الحديث، وعند سقوط الدولة العثمانية على يد البريطانيين، يذكر استقبال وفود المسلمين، من السُنَّة والشيعة، لمواكب المسيحيين، وهم يحيون احتفالهم بعيد الجسد «فنثروا الورد، ورشوا الماء المعطر على الموكب، وهتفوا: عاش سيدنا المسيح، عاش إخواننا المسيحيون، عاشت الوحدة العراقية، عاشت الوحدة الوطنية»(عوني، «الأقليات» في التاريخ العربي). وأن لبطريرك الكلدان الكاثوليك (1900-1947) يوسف عمانوئيل موقفاً لن ينساه العراقيون من بقية الأديان والمذاهب، وذلك يوم نفت القيادة العثمانية «إبان الحرب العظمى الماضية (الأولى) نفراً من وجهاء بغداد من مختلف الطوائف والمذاهب، وأشخصتهم إلى الموصل في طريقهم إلى الأناضول، فذهب الفقيد إلى القائد الألماني فون درغواز باشا يشفع فيهم. فأبدى المشير استعداده للعفو عن المسيحيين منهم فقط. فقال الحبر: إنني رجل دين، أب للجميع، ولا أخص ملتمسيّ بفريق دون فريق، فأعدهم جميعاً أو فأجلهم جميعاً»(مير بصري، «أعلام السياسة في العراق»). ولما أخذت تركيا تطالب بالموصل، كان مطران السريان الكاثوليك(1920)، يكتب على اللوحة أمام الطلبة الدارسين في الكنيسة عبارة: «الموصل رأس العراق لا يقطع»(الأب قاشا، عن وثائق كنسية). وتبوأ وجهاء المسيحيين وزارات أساسية في الدولة العراقية، من المالية والإعلام، ومراتب في الجيش وفي الشرطة، وفي مجمل دوائر الدولة الحساسة. بيد أن الحال اختلف بعد (9 نيسان/ أبريل 2003)، حيث تعرضت هذه الطائفة، الضاربة جذورها قِدماً في أرض العراق، إلى هجمات كارثية، وقتل مَنْ قُتل من الرهبان والقسس، وفجرت كنائس، في بغداد والموصل، وقل وجودهم في البصرة، ومازالت أحوالهم في الموصل غير ميسرة، فهجر الآلاف منهم إلى دول الجوار ثم إلى العواصمالغربية، مكرهين غير راضين على ترك ديارهم. إلا أن حكومة إقليم كردستان العراق، حاولت وتحاول الاحتفاظ بمَنْ يهاجر إليها، مثلما فعلت مع الصابئة المندائيين، وهم في تلك المناطق يجدون الحرية الدينية الأوسع، وذلك للتوجه العلماني، الواضح، هناك، وللصلات القديمة بالمكان، فأغلب مسيحيي بغداد تحدروا من أُصول عراقية شمالية. هناك توجه دولي، والفاتيكان في مقدمته، تساعد فيه الحكومة العراقية، والمراجع الدينية الشيعية والسُنَّية، لتقديم الحماية المطلوبة للمسيحيين من حوادث القتل والتهجير من البلاد بأساليب شتى. وقد تحدث الكردينال عمانوئيل دلي، رأس كنيسة بابل، لرئيس الوزراء عن هموم أتباعه، حتى وصلت الحال أن الدوائر أخذت تطلب من شبابهم، المتقدمين إلى الوظائف تزكيات من حزب الدعوة؛ جهلاً أو قصداً. وللتخفيف من تلك الأوجاع بادر رجال دين، الى مشاركة المسيحيين في أعياد الميلاد، وأن السيد حسين الصدر، صاحب العمامة السوداء، المؤثر في منطقة الكاظمية، عمل على إقامة حفل في مسجده تكريماً للكردينال دلي، عندما حمل تلك الرتبة الدينية العليا. إلا أن ما يُطمئن له أن العديد من المسيحيين لايريدون إفراغ العراق من وجودهم، فهناك مَنْ تحمل الظروف داخله، وهناك مَنْ ينتظر في العواصم المجاورة للعودة! والكثرة من العراقيين يجدون ما قيل لتكريم الأب أنستاس الكرملي (ت 1947) صاحب مجلة «لغة العرب»، هو الواقع الصحيح، إن كانت هناك نية صريحة لبناء عراق جديد: عشنا وعاشت في الزمان بلادنا/ جوامعنا في جنبهنَّ الكنائس وسوف يعيش الشعب في وحدة له/ عمائمنا في جنبهنَّ القلانس * كاتب عراقي