حين كان علي شيرازي، ممثل علي خامنئي في الحرس الثوري، يصرح الى وكالة «مهر» الإيرانية والمأذونة ان سلاح البحرية في الحرس جاهز «لحراسة قوافل السلام والحرية الى غزة»، ويشرط الحراسة والمواكبة المفضيتين الى حروب إقليمية ودولية بإصدار «الزعيم الأعلى» امراً في هذا المعنى، في الأثناء كان وزير الخارجية التركي، أحمد داود أوغلو، يطمئن «سي إن إن» الأميركية الى ان رجب طيب أردوغان لا ينوي الاشتراك في ركوب سفينة تقصد غزة. ومقارنة التصريحين أو القولين، وهما ليسا موقفين على معنى الإلزام السياسي، قرينة جزئية على الاشتطاط الذي قد تقود إليه مسرحة السياسة أو تلفزتها في عصر الإعلام الصوري والإلكتروني الرقمي وعصر النشاط السياسي الذي تتولاه منظمات غير حكومية. فالناطق الحرسي لا يرى ما يوجب تقييد إطلاق الكلام على عواهنه، وإرخاء الزمام لتخييل محموم و «مهدوي» يتصور العالم في آلام مخاضه الأخيرة، قبيل فرج إمام الزمان وظهوره، وتدميره الممالك والأمم الظالمة والقديمة فلا يقتضي ندب الأسطول البحري الإيراني، وحاملات طائراته العظيمة في مواكبة غواصات «بترول» السوفياتية المستخرجة من الخردة البريجنيفية على عجل تلبية لاحتياجات هجومية ملحة، لا يقتضي إلاّ كلمة من نائب إمام الزمان العدل والمستوفي الشرائط. ولا ريب في ان الاحتفال الناري والكلامي الحرسي هو وليد رؤى محمود أحمدي نجاد المهدوية والمخاضية والتلفزيونية معاً. ولا ريب، كذلك، في مزاودة الناطق الحرسي ومسابقته «الفارس» التركي في مضمار الانتصار للعروس الفلسطينية والعربية، وخطب ودها وإغوائها. فإذا «نجح» الغريم التركي في استدراج «الأعور» أو «الدجال» الإسرائيلي الى قتل 9 أتراك على متن سفينة مدنية، يقتصر تسلح ركابها من دعاة السلام والحرية (على قول الضابط الحرسي) على قضبان حديد، بحسب بولنت يلدريم من «مؤسسة المساعدة الإنسانية» التركية – جاز تعويل المخيلات الهاذية على آلاف القتلى إذا أبحرت الأساطيل الإيرانية الحرسية من موانئ الخليج العتيد، ومخرت بحر العرب الى باب المندب، ودخلت البحر الأحمر واجتازت قناة السويس وانعطفت شرقاً الى ساحل غزة وحررته، وأجلت المحتلين عنه، ونقلتهم الى أوروبا. وإذا نجم عن مقتل 9 أتراك الهرج والحرج الديبلوماسيان الدوليان اللذان شغلا طوال أسبوع، وربما أسبوعين، شوارع الأمم وأروقة الهيئات والأحلاف وعناوين الإعلام، فينبغي توقع هرج وحرج يفوقان مئة مرة نظيرهما التركي إذا «اقتصر» عدد ضحايا العدوان على 900، وألف مرة إذا بلغ 9 آلاف... والحق ان ما يقود الى الإسفاف المازح في معرض مأسوي، غير قدري تماماً، ليس الهراء الحرسي، المتخفف من أضعف معايير المسؤولية، وحده، فوزير الخارجية التركي، أستاذ الجغرافية السياسية السابق، أجاب ب «لا» مغلظة ومثلثة السؤال عن مشاركة «الفاتح»، أو «الغازي» أو «السلطان» على ما يسمي بعض الأتراك رئيس حكومتهم منذ عودته المظفرة من موقعة دافوس في صيف 2006، في غزوة غزة السلمية الآتية، لكنه استدرك على جوابه القاطع، وضعف أمام إغراء الفكرة والصورة، ولم يشأ تبديدهما. فأقر بأن طيف إبحار الرجل على ظهر سفينة عظيمة، يحفه آلاف الأتراك من الطبقات الوسطى الجديدة، داعب خاطر «الزعيم (شبه) الأعلى» التركي. ولكن الحكومة التركية، أو على وجه الدقة الوزراء «في صفت(هم) حكومة تركية، لم يشجعوه». واستدرك الوزير على الاستدراك الأول، فقال: «إذا كانت هناك محاولة جديدة في إطار مدني، لا يمكننا الخوض في الأمر» منذ اليوم. وعلى هذا، تترجح القيادة التركية بين منطق سياسي جاد وصارم، يحرص على التزام نهج قانوني دولي ويقصد إلى تحصيل نتائج فعلية وملموسة تؤدي الى مراجعة الحصار المضروب على غزة وتحمل مسؤوليات المراقبة، وبين منطق الشاشة التلفزيونية والخطابة المشهدية، وبابه المشروع على «الإيرانيات» و «الحرسيات» المنحولة والمرسلة. والتمرين هذا، أو الترجح، دقيق. ويفترض في صاحبه – وهو من همَّ اسماعيل هنية الحمساوي والغزاوي بتسميته ب «الخليفة» وسمى دولته ب «دولة الخلافة» – الجمع والتأليف والموازنة بين داعي الموقف الإنساني والقانوني والدولي وبين داعي الهوى والجنوح القوميين والأنانيين وتشبيهه. وأصداء الواقعة التركية، أي قيادة جمعية تركية سفن كسر الحصار المضروب على ساحل غزة، تحمل على التنازع والتجاذب. فالجمهور «الإنساني» والإسلامي والقومي يميل معظمه مع الدعوات المباشرة والحادة، والمناوئة للغرب، فوق ميله مع المواقف المقيدة بالتزامات واضحة ومشروطة، مفضية الى حلول ظرفية وجزئية. وسابقة صدام حسين قريبة. ويومها، أي عشية غزو العراق حسب متظاهرون عرب ومسلمون كثر ان رفعهم صور الطاغية العراقي هو عربون تضامنهم مع «العراقيين». وهو كان حاجزاً بين الطاغية وبين رضوخه للتخلي عن حكم أساء استخدامه، بمعزل من المزاعم الأميركية في حيازته عناصر سلاح نووي وجرثومي (لوّح هو به عمداً قبل سنوات قليلة). ولا وجه للمقارنة بين رئيس الحكومة التركي وبين الطاغية العراقي، لا من قريب ولا من بعيد. ولم يحاول الطاغية يوماً التوفيق بين مصالح «قومية» مزعومة، على شاكلة «مرور طريق القدس بعبادان»، أو بطهران، وبين التزامات إنسانية ودولية وسياسية. ولا ينفي بطلان المقارنة حقيقة مشكلة التوفيق بين قيود المنطق السياسي وبين جموح المنطق العصبي. وتنبه السياسيون الأتراك، وفي مقدمهم أردوغان نفسه وإلى جنبه وزير خارجيته، الى مشكلة التوفيق هذه، فحال وقوع المأساة، ندد رئيس الحكومة التركية بانتهاك الهجوم الإسرائيلي على «ما في مرمرة»، ومقتل مدنيين عزل في الهجوم، القانون الدولي. وأنكر على حكومة نتانياهو، تخصيصاً، إدارتها ظهرها الى السلام، وتهديدها سلام المنطقة، وحجزها بين «الشعب الإسرائيلي وبين الاستقرار والطمأنينة»، و «فرضها العزلة على شعبها». وبينما كان أردوغان لا يزال في تشيلي أو في طريقه الى بلده، عمدت أنقرة الى إجراءات ديبلوماسية وقانونية معهودة. فاستدعت سفيرها بتل أبيب، وألغت مناورات عسكرية مشتركة مع القوات الإسرائيلية، وقوات أخرى، كانت متوقعة ووشيكة. وصرح ألكر باشبوغ، قائد الأركان، أن الهجوم «خطير وغير مقبول»، فألحق الجيش، معقل التحفظ عن مجافاة اسرائيل بالحكومة. وطلبت هذه اجتماعاً عاجلاً لمجلس الأمن، وآخر لمجلس حلف الأطلسي ببروكسيل. وتعالت الإجراءات هذه، والصياغات التي رافقتها وتناولت تعليلها، فحملته على مصالح «الشعب الإسرائيلي» وتنكر الحكومة الإسرائيلية الحالية لها، تعالت عن الانسياق وراء هتافات متظاهري ساحة تقسيم اسطنبول: «الموت لإسرائيل» و «أيها الجنود الأتراك الى غزة» و«العين بالعين والسن بالسن». ولا ريب في ان الهتافات هذه كانت محظورة رسمياً، وكانت الحكومة التركية تزجر الهاتفين بها، على ما ذكر مراسل «العربية» باسطنبول. ولكن مقتل مواطنين أتراك غيلة، على متن مركب تركي غير مسلح، بعث مشاعر قومية وعصبية حادة لم تكن الحكومة تسوغ العبارة عنها، ولم تماشها إجراءاتها ولا أقوالها على رغم رفع الحجر عنها. وفي الخطبة «الحزبية» والجماهيرية التي خطب بها نواب «العدالة والتنمية»، وبثها التلفزيون التركي مباشرة، توسل أردوغان بأشد العبارات قومية وسيادية. فندد ب «المجزرة الدموية»، واختار وقع العبارة الطاغي والجرمي وترك عبارة «إرهاب الدولة»، القانونية والحقوقية. ونادى ب «معاقبة إسرائيل»، ولم يذكر الهيئات التي يُحتكم إليها في طلب العقوبة وإجرائها. فقدم الوجه الأخلاقي والجنائي والديني على غيره من الوجوه. وحذر من محاولة «اختبار صبر تركيا». ونحت الجملة نحو حمل الحادثة على مجابهة إسرائيلية – تركية خالصة، واطراح نصاب أو مرجع يحتكم إليه المتخاصمان أو المتحاربان، ويحكمانه في خصومتهما. والجملة هذه هي أقوى استجابة للنعرة العصبية التي غلبت ربما على بعض الأوساط التركية. ولوَّح، على خلاف كلام لاحق أدلى به وزير خارجيته الحذر، بالثأر للمدنيين القتلى، وطي صفحة العلاقات الإسرائيلية – التركية «المميزة». ولكن الخطيب الغاضب عاد الى التلازم بين «قضية» تركيا وبين «فلسفة الأممالمتحدة»، ولم يفصل الأولى من الثانية. وقرن «مهاجمة السفن وقتل الأبرياء» على ما فعلت إسرائيل، ب «التعامل مع الإرهابيين»، وهو جريمة الجرائم في نظرها. وهو يماشيها في الشأن هذا. ونوه بالصداقة التي ربطت بين تركيا (العثمانية) وبين اليهود، وشمل يهود تركيا بالموقف الشعبي من قتل الأتراك على متن السفينة، وتكلم باسمهم. وأرفق الإلحاح على الأممالمتحدة في اتباع القرارات بالتنفيذ، بانتقاد «العداء للسامية». وتوعد إسرائيل بثمن «باهظ» إذا هي شبهت تركيا بجهات أخرى، يقصد ألمانيا النازية وربما إيران النجادية. والوعيد دليل قوي على رغبة حزبه، وهو يقود تركيا الى الانخراط في أوروبا، في النأي ببلده من شبهات يعرف وقعها الأوروبي المدمر. وحض «الشعب الإسرائيلي» على محاسبة حكومته، و «إرهاب الدولة» الذي تنتهجه، على إضرارها به. وفي الأثناء، لم يكف أردوغان عن بسط رعايته على غزة، وإعلان حقوق هذه الرعاية إما باسم المجتمع الدولي أو باسم دالة تركيا و «صداقتها» الثمينة. ودعاه داعي «الصداقة» الى إسباغها على «حماس». فانتهك شطراً من السياسات العربية هو محط مصالح إقليمية ووطنية تترتب على انتهاكها ذيول متداعية. وفي 2 حزيران (يونيو) أجمع مجلس النواب التركي على بيان لوّح بإعادة النظر في العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية بين البلدين في إطار «الوسائل القانونية الوطنية والدولية المتوافرة لدى (تركيا) ضد إسرائيل». واشترط اعتذار الحكومة الإسرائيلية رسمياً عن الهجوم، وإحالة مرتكبيه على القضاء، وتسديد تعويضات عن الأضرار. وندب المجلس وفداً من النواب الى التحقيق في الهجوم، وطلب إليه التوجه الى إسرائيل. وفي الوقت نفسه لم ير أحمد داود أوغلو «سبباً يوجب ألا تعود علاقات (البلدين) الى سويتها الطبيعية حال رفع الحصار عن غزة والإفراج عن مواطنينا». وقال ان «الوقت حان ليحل الهدوء محل الغضب في الرد على إسرائيل. (و) ينبغي ان يتجنب الناس السلوك الانفعالي». وكان أردوغان رهن، في مهاتفته الرئيس الأميركي، «مكانة اسرائيل في الشرق الأوسط... بأعمالها في المستقبل». وهذا، وغيره مثله، لا يؤذن على وجه اكيد أو مرجح بمصير العلاقات التركية – الإسرائيلية. وهي، في الأحوال كلها، رهن عوامل كثيرة في الأزمات الإقليمية والدولية الأخرى، ورهن تطور النظام السياسي التركي نفسه. فمحاولات الأتراك في قيادة حزب العدالة والتنمية منذ نحو العقد، أو أقل بقليل، إصلاح بنية سياسية سلطانية أو امبراطورية تقوم على مراتب الأقوام، ومخلفات منازعاتها العميقة، لا تزال تتعثر بالمراتب والمخلفات هذه. ولا ريب في ان انخراط الدولة التركية، والمجتمع التركي، في النطاق الإقليمي الأصلي، ودوائره المتشابكة، هو شرط بناء دور تركيا وهويتها الوطنية السياسية، على أسس فاعلة وثابتة. وتدرك النخب التركية على الأرجح عمق مهاوي النطاق الإقليمي وسراباته المدمرة. ويقظة المهابة والدالة التركيتين قد لا تنفك من نعرة سلطانية يغذيها التمزق الداخلي، وتغذيه بدورها. والنعرة والتمزق هما بمنزلة الشياطين التي ينبغي للدولة الناشئة لجمها على شفير اختبار متجدد. فلا ينسى الوطنيون الأتراك ان تركيا ليست فوق الجميع، وأن الامبراطورية ليست رسالتها ولا وعدها، وأن مجتمع الدول مهمة غير ناجزة. * كاتب لبناني