مرة أخرى عاد القضاء المصري ليكون طرفاً في خلافات مع أطراف أخرى، على رغم تأكيد كل الجهات إقرار استقلال القضاء والخضوع لسلطته. فتح حكم أصدرته أخيراً المحكمة الإدارية العليا منح الحق للمطلقين الأقباط بالزواج ثانية المجال مجدداً لانتقاد أحكام القضاء، ولو بصور ملتوية وغير مباشرة، لتفادي الوقوع في مخالفات قانونية، حيث يحظر القانون المصري توجيه النقد إلى الأحكام القضائية. غير أن اعتراض الكنيسة المصرية على الحكم، وتأكيد البابا شنودة أنه لن يسمح بزواج القبطي المطلّق مرة أخرى تحت أي ظرف، وضع القضية على المحك، وأظهر الكنيسة وكأنها صارت طرفاً في نزاع مع القضاء. لكن الواضح ومنذ فترة أن القانون المصري بمختلف مواده يحتاج إلى مراجعات ليتناسب مع طبيعة وظروف وتطورات العصر، وأن من الأحرى والأكثر فائدة للمجتمع أن تنقى القوانين التي لم تعد تصلح وفات زمانها وأن تعدل المواد التي تسببت في جدل كهذا، أو هددت الوحدة الوطنية في البلاد، أو وضعت أطرافاً في مواجهة أطراف أخرى من دون أن تكون لهذا الطرف أو ذاك رغبة في خوض معركة وجد أنها فُرضت عليه. فالقاضي في النهاية لا يصدر حكماً يعبر عن رأيه الشخصي في قضية ما، وإنما يطبق نصوص القانون، والمساحة التي يستفتى فيها قلبه لا تسمح له بمخالفة نصوص صريحة في القانون. وعلى ذلك يمكن تفهم الأحكام التي صدرت بمصادرة كتب أو روايات أو دانت كُتّاباً أو مبدعين، وتسببت في جدل وربما غضب بين النخب الثقافية لا يقل عن غضب الأقباط تجاه الحكم الأخير. وحسناً فعلت الدولة المصرية بعد صدور الحكم بتكفير الدكتور نصر حامد أبو زيد وتفريقه عن زوجته حين عدلت في قانون الحسبة ومنحت النيابة فقط من دون الأفراد حق إقامة دعاوى الحسبة، لكن التعديل لم يكن كافياً وأظهرت الأزمة الأخيرة وقبلها قضية كتاب «ألف ليلة وليلة» وقبلها قصيدة الشاعر حلمي سالم التي تسببت في إغلاق مجلة «إبداع» وقبلها قضايا أخرى عدة، أن التغاضي عن ضرورة تعديل بعض القوانين سيجر البلاد من أزمة إلى أخرى... إلا إذا كان ما يحدث مطلوباً لشغل الناس عن قضايا أخرى أهم. بالأمس تظاهر الأقباط في مصر احتجاجاً على حكم المحكمة الإدارية العليا، وفي الوقت نفسه نقلت صحف عن أقباط آخرين تأييدهم الحكم لعجزهم عن الزواج بعدما نالوا صك الطلاق! وهكذا فإن معضلة القوانين المتسببة في الأزمات لن تؤثر فقط في موقف الكنيسة من القضاء، وإنما يمكن أن تشق وحدة الأقباط أنفسهم وتضع الكنيسة في مواجهة مع بعض المتضررين من مواقفها تجاه قضية الزواج الثاني. ليست هذه المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يعترض فيها طرف على حكم قضائي غير جنائي. ولأن حال السياسة في البلاد لا تسُر الكثيرين، وهناك من يعتقد بعد تجربة انتخابات مجلس الشورى الأخيرة أن الحال لن تتغير، فإن قضايا أخرى صارت تستقطب أحكام الناس أكثر بكثير من اهتمامهم بممارسة السياسة أو حتى متابعتها، غير أن الأمر لا يهم الناس من باب حُب الاطلاع، وإنما لأنه يؤثر فيهم وعليهم. لقد بررت الحكومة والحزب «الوطني» التعديلات الدستورية التي ألغت إشراف القضاء على كل مراحل الانتخابات بأن الهدف كان الحفاظ على هيبة القضاة حتى لا يكونوا في مواجهة مع المرشحين أو الناخبين، وأن الاكتفاء بوجود قاضٍ في اللجان العامة من دون مراكز الاقتراع يضمن الإشراف القضائي ولو في حدود، لكنه ينأى بالقضاة عن ألاعيب السياسة. أليس في الأمر تناقض؟!