يبقى السؤال التركي بعد واقعة «أسطول الحرية» معلقاً عند عقدة ما بعد فك الحصار عن قطاع غزة. فإسرائيل سقطت أخيراً في فخ الحصار، وهي تعيش اليوم عزلة دولية غير مسبوقة، ويبدو أن الديبلوماسية التركية قررت توجيه الضغط باتجاه فك الحصار، وتفعيل الرصيد المتشكل عن التضامن الدولي في تلك المسألة. فالرعونة الإسرائيلية في التعامل مع «أسطول الحرية»، والتي ذُهل العالم من وضوحها وسفورها، كشفت خللاً في الوظيفة السياسية للحصار، خصوصاً أن تصريح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو بعد عودته الى تل أبيب لم يخل من اعتراف بأن إسرائيل كانت تنوي تفتيش المساعدات، لا منعها، وهو ما يؤشر الى أن نتانياهو يعرف أن المنظومة الأخلاقية التي خاطبها في أعقاب هجوم جيشه على الأسطول لم تعد في وارد القبول باستمرار الحصار. وهذا بالطبع سيسهل المهمة التركية، ناهيك عن الخطوة المصرية المتمثلة بفتح معبر رفح، رداً على العملية. لكن ماذا بعد فك الحصار؟ فرد حماس الرافض عرض الرئيس الفلسطيني محمود عباس استئناف مفاوضات توحيد السلطة يؤشر الى استمرار المأزق الفلسطيني ومراوحته عند حدود الانقسام، وهذا الأمر سيكشف الوضع الفلسطيني أكثر في حال فك الحصار عن القطاع، إذ إن العزلة التي تعيشها غزة تتولى بالإضافة الى حصار السكان وإفقارهم، حجب النتائج المدمرة الناجمة عن الانقسام الفلسطيني. وهذا الحجب كان أصلاً واحداً من الأهداف المتوخاة لإقفال المعابر في وجه السكان، بحيث يخدم كلاً من إسرائيل وحماس على حدٍ سواء. من الواضح أن الدور التركي المستجد في القضية الفلسطينية اختار مدخلاً واحداً في سعيه الى تثبيت موقعه المحوري في ظل الغياب العربي، وهو غزة. وهذا المدخل الذي يستبطن قضية إنسانية يغفل من جهة أخرى المدخل الثاني الذي لا بد منه، أي القدس، وتحديداً السلطة الفلسطينية في رام الله، لا سيما أننا حيال انقسام حاد بين كل من «الدويلتين». فالحصيلة السياسية للحركة التركية اليوم لا يُمكن توظيفها فلسطينياً خارج الانقسام، وأن تستثمر تركيا في القطاع فذلك سيكون على حساب الضفة، طالما أننا نتحدث عن سلطتين تتنافسان. هذا من حيث الشكل. أما من حيث المضمون، فمن المفترض أن تركيا جاءت لتملأ فراغاً خلّفه ضعف عربي واضح في مقاربة القضية الفلسطينية، والترحيب بهذا الدور لا يخلو من غبطة ناجمة عن منافسة أنقرةطهران على هذا الصعيد. وإذا كانت حماس هي مسرح التنافس، فإننا هنا أمام معضلة لا تختلف عن معضلتنا مع حماس الإيرانية، إذ إننا سنكون عندها أمام حماس تركية، وفي هذه الحال نكون قد انتصرنا لأنقرة على طهران، في حين ستبقى الدولة الفلسطينية معلقة عند الانقسام قبل تعلقها بالتزمت الإسرائيلي. الحاجة الملحّة لفك الحصار عن قطاع غزة لم تُملِ على اللاعب التركي بعد بحث طبيعة العلاقة بين حماس ومصر في حال فك الحصار. والحال أن نجاح أنقرة في المهمة الأولى سيوقعها في فخ المهمة الثانية إذا لم تكن قد استدركتها. فغزة اليوم تحت حكم حماس، وطبيعة السلطة الحمساوية لن تكون منسجمة على الإطلاق مع ظروف الجارة الوحيدة لها، أي القاهرة. والمأزق نفسه ستواجهه أنقرة مع رام الله، إذ إن طبيعة العلاقة بين الحكومتين الفلسطينيتين لا تتيح وضعاً طبيعياً تفترض أنقرة أن فك الحصار سيؤمنه. فحماس ترفض حتى الآن تحديد موعد للانتخابات الفلسطينية، وهي ترفض حكماً مرجعية رام الله. وهي اليوم تستمد شرعيتها ووظيفتها من واقع الحصار، وطبعاً من بسطها سلطتها بقوة انقلاب قامت به، ولا يبدو أنها في وارد قبول واقع جديد. اللحظة مواتية من دون شك لضربة معلم تركية تفضي الى فك الحصار عن قطاع غزة، ولكن الانتصار لن يُكتب له النجاح إذا لم يكن صاحبه قد أعد نفسه له. ولا يبدو أن ثمة مؤشرات الى أن تركيا قد أعدت نفسها لمرحلة ما بعد فك الحصار، وعندها سيصبح استحقاق غزة فلسطينياً ثم تركياً وستتخفف إسرائيل من عبئه. فعلاقة أنقرة مع القاهرة ستكون على المحك، وعلاقاتها مع رام الله أيضاً. ثم اننا سننقل عزلة إسرائيل التي كانت سبقت حماقتها في بحر غزة الى سوية أخرى. فمعضلة الدولة الفلسطينية هي القدس قبل غزة، وأن نحول الاهتمام بهذه القضية من مركزها الى طرفها، فهذا سيريح تل أبيب من دون شك، وسيفتح أمامها نوافذ جديدة، بعد مآزقها التي سبقت جريمتها الأخيرة. يجري في رام الله ما لم يكترث له اللاعب الجديد، أي تركيا. ثمة مواجهة بين حكومة سلام فياض وحكومة بنيامين نتانياهو حول القدس وحول مستوطنات الضفة، وسبق لفياض أن كسب رأياً عاماً دولياً أفضى الى توتر واضح في العلاقة بين تل أبيب وواشنطن. وفي موازاة ذلك، نجح الرجل في خفض معدلات الفساد والحد من أدوار الأجهزة الأمنية على نحو لم تستطع إغفاله مؤسسات دولية كالاتحاد الأوروبي. فإذا كان القرار التركي الاستثمار في القضية الفلسطينية من بوابة المشاعر دون الوقائع، وتجسّد الاستثمار في معادلة مخاطبة المزاج الحمساوي من دون الأخذ في الاعتبار حسابات الواقع، فسنكون في حينه أمام نسخة ملطفة قليلاً من طبيعة الاستثمار الإيراني. لا شيء يؤكد ذلك حتى الآن... لكن لا شيء ينفيه.