مع ذبول أو تراجع النمط القديم من القيادات أمثال بن غوريون ورابين وصعود أمثال نتانياهو وليبرمان وباراك، يتبدى خطر أن يكون القادة مهتزين طامعين في مناصبهم، ومن ثم فعيونهم مفتوحة على قوى الائتلاف الحزبي الذي يمكنهم منه البقاء فيها خشية انسحاب حزب قومي متشدد، أو نقد حاخام ديني متطرف، أو تمرد مستوطن متعصب، فيما صارت هذه العيون مغمضة عن رؤية العالم وما فيه، ورصد حركة التاريخ وما تخلقه من فرص أو تفرضه من قيود. ولذلك لا يرى هؤلاء كل فرص السلام المتاحة والتي كان يحلم بها أسلافهم الكبار حتى عقدين مضيا، كما لا يرون القيود المتعاظمة التي تفرضها ثقافة إنسانية ومدنية متنورة على استخدام العنف، وخصوصاً ضد العزل، وبالأخص عندما يكون الهدف إنسانياً بحتاً لتقديم إغاثة أو مساعدات ضد شعب محاصر من كل الجهات يموت أطفاله وشيوخه ربما لنقص الدواء ناهيك عن كل أسباب العيش الكريم. إن قيادة سياسية من حجم متوسط لها الحد الأدنى من الوعي بالعالم وحركة الزمن لم تكن لتأخذ مثل هذا القرار العدواني ضد فكرة إنسانية نبيلة ولو كانت محرجة لها. والأمر الثاني هو حالة عدم اليقين الذي تعاني منه إسرائيل بشدة منذ حربها الفاشلة مع حزب الله. فبصرف النظر عن الحسابات العسكرية التفصيلية والتي ربما كانت مركبة، فإن الأثر النفسي الذي بقي منها في اللا شعور السياسي الإسرائيلي هو هشاشة القوة الإسرائيلية وتعاظم قدرة المنطقة على تحديها في أي صورة من الصور. ويبدو أن خطر هذه الحالة يبدو كبيراً جداً بل أكبر من حساباتهم الواعية، فالمتأمل مثلاً محرقة غزة لا يمكنه أن يفهمها سوى من تلك الزاوية، زاوية دولة اعتمدت القوة وسيلة وحيدة للوجود ضد كل جيرانها فأخذت تعظم من أهميتها وتفرط في استخدامها. وفجأة وجدت أن هذه القوة تصير إلى عطب، ولم تعد حاسمة في السيطرة، ما يعني أن وجودها يصير إلى العطب نفسه طالما كان مساوياً فقط لهذه القوة بحسب تعريفها. لقد كانت الحرب على غزة إذاً فعلاً نفسياً بالأساس مهما قيل عن ملابسات سياسية صاحبته أو سبقته، وعلى المنوال نفسه يمكن تفسير التصدي الأحمق لأسطول الحرية، والذي يكشف عن خوف عميق أكثر مما يكشف عن قوة سياسية أو عسكرية، فالأولى اتخذت قراراً غبياً بالتصدي العنيف، والثانية فشلت حتى في تنفيذ القرار فكان الفشل مركباً والصورة مأسوية. كان المفكر اليهودي الأميركي مارتن بوبر قد اعترف قبل نصف قرن تقريباً بإخفاق التنوير اليهودي أمام الحركة الصهيونية، ووقوعه في أسر العنصرية قائلاً: «لقد برهن هتلر على أن مسار التاريخ لا يوازي مسار العقل ولكن مسار القوة، وأنه عندما يكون هناك شعب على قدر من القوة فإنه يستطيع أن يقتل من دون عقاب، وهذه هي الحال التي كان علينا أن نحاربها، لقد كنا نأمل في أن ننقذ القومية اليهودية من خطأ تحويل شعب إلى صنم معبود ولكننا أخفقنا»! كان بوبر يبدي دهشته لأن شعور اليهود بعذاباتهم في السياق الأوروبي، وبالصدمة في الإنسانية الأوروبية التي حاولت إبادتهم على يد النازي، لم تمنعهم من تكرار هذا السلوك نفسه، المفرط في اللاإنسانية ضد العرب وخصوصاً الفلسطينيين. كان الرجل يتحدث في ظروف مغايرة لم يكن العرب يجمعون فيها على أن «السلام خيار استراتيجي وحيد»، وعن اتحاد سوفياتي يناصر العرب ضد إسرائيل في سياق حرب باردة لم تتح فرصة حقيقية لتسوية سلمية، ولا أدري ماذا كان الرجل سيقول اليوم لو أنه رأى تلك الجريمة الشنعاء ضد عُزَّل حفَّزهم الحس الإنساني لمناصرة شعب يعاني الحصار، آثروا أن يقدموا له الغذاء والدواء لا السلاح؟ كان الرجل يتحدث بالأمس عن فشل الصهيونية التقليدية في التعلم من التاريخ، خصوصاً من فلسفة التنوير القائلة بأن «من لا يتعلم من التاريخ محكوم عليه بتكراره»، غير أن صهيونية اليمين الديني اليوم تتجاوز حال الفشل في التعلم من التاريخ إلى حد إنكاره تماماً بفعل وحشيتها التي تكرس حقيقة إسرائيل، أو تعريها كمولود تاريخي لقيط وأناني بل سادي، تدفعه أنانيته إلى القمع، وتزيد ساديته من توقه النهم إلى مشاهدة روايته التاريخية معادة ومصورة للغير أمام عينيه في دراما إنسانية أكثر مأسوية، يزيد من تعقيدها ويعيد إنتاجها باستمرار هاجس الأمن وعقدة الخوف الذاتي التي غالباً ما تصاحب كل كائن لقيط لا يجد لنفسه صكوك نسب إلى الزمن حيث تصبح القوة، مع المبالغة في إظهارها، هي الوثيقة الرئيسة، وصك النسب الوحيد إلى صيرورة الزمن، الأمر الذي يحيل هذا الكائن إلى ملاكم في حلبة واسعة يلاكم من فوقها الجميع، وبعد نهاية كل جولة وحتى فى أوقات الراحة، بل وكذلك بعد نهاية المباراة نفسها خوفاً من الهزيمة / العدم، ولو بدا انتصاره واضحاً فى كل جولة سابقة، لأنه لا يثق، ولا يمكن أن يثق، لا في خصمه ولا في الحكم / التاريخ، ولا حتى في قواعد اللعب التي تجعله محدوداً بزمن لا بد أن ينقضي. هذا الكائن إذ ينكر حكمة التاريخ ويهدر روح الاستنارة، يستحيل خصماً من رصيد الحضارة الإنسانية بل وعالة كبيرة عليها.