ظل حلم هبوط البشر على سطح المريخ يداعب خيال العلماء لسنوات طويلة. ويكاد الكوكب الاحمر يكون أكثر الكواكب إثارة لشهية الدارسين وعلماء الفضاء خصوصاً، بسبب تجمع كثير من الدلائل على شبهِهِ بالأرض واحتمال العثور على أثر للحياة عليه، ما يفتح آفاقاً لا يمكن حتى التكهن بآثارها وتفاعلاتها في حال ثبتت تلك التوقعات. ودفع هذا الحلم الفضائي القديم بروسيا والولايات المتحدة إلى خوض مواجهة غير مرئية، سعى خلالها الطرفان إلى تحقيق سبق في هذا المجال، قبل ان تنضم بلدان أخرى إلى السباق نحو المريخ، مثل الصين واليابان والإتحاد الاوروبي. وتاريخياً، جرت المحاولة الأولى لاستكشاف الكوكب الأحمر في العام 1962. ومنذها، أرسلت روسيا والولايات المتحدة عشرات المركبات الفضائية والمكوكات، التي فقد بعضها في الفضاء ونجح بعضها الآخر في الاقتراب من المريخ، والتقاط صور له، وفتحت آفاقاً مهمة أمام العلماء. في المقابل، حاق الفشل دوماً بمحاولات إنزال مركبات على سطح المريخ. وحتى تلك المركبات التي «قهرت» الكوكب الأحمر، وهبطت بسلام عليه، لم تلبث أن فقدت أو إنقطع الاتصال بها وقت قصير من إقامتها على المريخ. وعلى رغم ذلك، تواصلت تجارب البلدين طيلة عقود لتحقيق إنجاز في هذا المجال. ومع الصعوبات الجمّة التي مرت بها صناعات الفضاء في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ما زال الروس يحلمون بأن تحقق بلادهم إنجازاً تاريخياً بأن تنجح في إنزال أول إنسان على سطح الكوكب الأحمر. ولا ينسى الروس أنهم إفتتحوا عصر الفضاء ومغامرة اكتشافه، عندما سبقوا شعوب الأرض الى إطلاق القمر الإصطناعي الأول «سبوتنيك 1» (1957)، الذي تلاه ريادة موسكو في إرسال رائد فضاء أول ليسير في الكون، وهو يوري غاغارين، في العام (1961). وفي المقابل، لم تنس روسيا وجعها الكبير، حين «سرق» منها الاميركيون علم الريادة، فنجحوا في إرسال أول إنسان (نيل أرمسترونغ) إلى سطح القمر عام (1969). الوحدة الصعبة في الفضاء المجهول ربما كانت الريادة في الفضاء، وما تعنيه من تقدّم في العلوم والتكنولوجيا، من الاسباب التي دفعت الروس إلى تكثيف نشاطهم في مجال البحوث المتصلة بإرسال مركبات فضاء مأهولة إلى المريخ. والأرجح أنهم يملكون دوافع اخرى، من بينها إبراز أن صناعة الفضاء في روسيا «بخير»، وان النشاط الذي تجلى في مساهمة روسيا القوية في بناء «محطة الفضاء الدولية» مؤشر مهم الى قدراتها في مجال الفضاء. ويضاف إلى ذلك أن بلداناً كثيرة تعتمد على قواعد الفضاء الروسية (مثل قاعدة «بايكانور» في كازاخستان) لإطلاق أقمارها الإصطناعية إلى الفضاء، محمولة على متن ناقلات روسية أيضاً، ما يعزز الثقة بأن موسكو ما زال في جعبتها الكثير. وأخيراً، ظهر نموذج آخر من قدرات روسيا في علوم الفضاء، عبر مشروع «مارس500» Mars 500. ويهدف المشروع إلى تجهيز رحلة لمكوك ينقل رواد فضاء وعلماء إلى الكوكب الاحمر، في تطور من شأنه أن يحقق، إن أنجِز، ثورة حقيقية في علوم الفضاء. و «مارس 500» هي التسمية التي أطلقت على مشروع طموح يشتمل على سلسلة تجارب بدأ العمل عليها منذ العام 2007. ويشرف على هذا المشروع «المركز العلمي الروسي»، أرقى مراكز البحوث في موسكو، ويحظى بدعم قوي من السلطات التي خصصت له موازنة ضخمة. ويهدف مشروع «مارس500» لإختبار تكيّف البشر مع العيش على سطح المريخ. ويضم ثلاث مراحل، بدأ تنفيذ الأولى منها في العام 2007، عندما صُنِعت كبسولة معزولة تماماً عن العالم الخارجي، كما زُوّدت بما يلزم كي تكون الحياة في داخلها مشابهة لظروف العيش في المريخ. واختار المركز مجموعة من المتطوعين الذين خاضوا تجربة الاقامة فيها لمدة 14 يوماً. وقاد نجاح التجربة ونتائجها، التي وصفها العلماء بأنها «إيجابية ومشجعة جداً»، إلى الشروع بتنفيذ الجزء الثاني من البرنامج، وهي مرحلة أصعب من سابقتها. إذ احتاج القيمون على المشروع لإجراء فحوص دقيقة على 5600 شخص تطوعوا للمشاركة، وأخضعوهم لتجارب كثيرة قبل ان يقع اختيارهم على أربعة منهم. وإنضم إليهم ألماني وفرنسي إنخرطوا في المرحلة الثانية التي حملت تسمية «105» نسبة إلى عدد الأيام التي قضاها الفريق المختار في كبسولة خاصة زوّدت بوسائل إضافية جعلتها مطابقة لتصورات العلماء عن الحياة على سطح المريخ. كما كُلّفت المجموعة بمهمات خاصة، مستقاة من مهمات طاقم مكوك يقوم برحلة صعبة في الفضاء الخارجي. وخلصت التجربة التي انتهت في شهر تموز (يوليو) 2009، إلى نتائج مهمّة مكّنت العلماء من تحقيق طفرة في دراسة المسار المفترض للرحلة، والتأثيرات المختلفة على طاقمها صحياً ونفسياً، إضافة إلى دراسة تأثير التغيّرات المناخية المرتبطة بالرحلة على سلوك الأفراد وقدرتهم على مواصلة مهماتهم بشكل منظم لا يعرض الرحلة وطاقمها للمخاطر. وبحسب مصادر في «وكالة الفضاء الروسية»، فإن التجربة حاكت الحياه الطبيعيه للعيش داخل سفينة فضاء خلال رحلة إلى الكوكب الاحمر، بما في ذلك الهبوط والتجوّل على سطح المريخ. واللافت أن التجربة مرت من دون ظهور أي عارض طارئ خطر. واضطر «طاقم الرحلة» للقيام بعملية طارئة مرة وحيدة خلال المسار الافتراضي، فنجح في مواجهة خلل فني لم يحتج إصلاحه لسوى... شريط لاصق. وبات واضحاً ان نجاح هاتين التجربتين فتح شهية العلماء الروس لخوض الإمتحان الأكبر الذي سيكون الفاصل قبل الشروع بتجهيز مركبة الفضاء في رحلة حقيقية الى المريخ. هذه المرة ستكون التجربة أصعب وأكثر حسماً. والتاريخ المتوقع لإطلاقها هو نهاية السنة الحالية. إنها المرحلة التي حمل المشروع كله إسمها «مارس 500». وتتضمن عزل فريق من المتطوعين لمدة 520 يوماً، هي الفترة اللازمة للوصول إلى المريخ والعودة منه إلى الارض، بحسب الخطط الروسية. وتشير الخطة إلى أن رحلة الذهاب تستغرق 250 يوماً والعوده 240 يوماً، مع فترة بقاء على سطح الكوكب الاحمر تستمر 30 يوماً. ويعوّل الخبراء على إجراء تجارب تفصيلية، خلال ال520 يوماً، على الفريق، تتمحور حول تأثير المناخ في المريخ على جسم الانسان وعمل أجهزته الدخليه، واختبار القدرة العملية على السفر لهذه الفترة. وبسبب دقة المرحلة والحرص على الخروج بأفضل نتائج منها، لم يستبعد الخبير أوليغ فاشيبين، من «المركز العلمي لبحوث الفضاء» إمكان تمديد التجربة 200 يوماً، «لغايات إحترازيه». وأشار إلى إحتمال ضمّ وكالات فضاء في بلدان أخرى إلى المشروع بعد إنجاز مراحله التمهيدية، واشتراك رواد فضاء منها في الرحلة المنتظرة. ولم تفصح الوكاله الروسية عن الموازنة المخصصة للتجربة الحالية، لكن أحد المسؤولين قال بأن كل مشارك في «مارس 500» يحصل على مكافأة مالية بقرابة 55 ألف يورو.