يؤكد الكاتب عبد الله الحكيم إن الحداثة هي استمرارية نقل معارف مَن قبلنا بما يضيف إليه من معارف عصرنا، ومن بعد ذلك إذا انتهينا من أدوارنا وتأتي حداثة أخرى بمفردات ونواقل وشواهد تختلف عن ما أضفناه إلى المعرفة... فقط هنا نبقى تاريخاً آيلاً للإضافة أو النقض والتعديل، لافتا إلى أن شعراء مثل محمد العلي ومحمد الثبيتي وعبد الله الصيخان وفاروق بنجر سيصبحون تاريخا آيلا للحداثة، وأنهم لن يكونوا حداثيين. وقال الحكيم في حوار مع «الحياة» إنه في الثمانينات كان يستمتع بشن الغارة تلو الأخرى على خصومه، وبدوره كان هناك من ينتظر أن يرد الغارة بمثلها. إلى تفاصيل الحوار. بصفتك أحد كتاب مرحلة الحداثة في السعودية، وكان لك دور في التعاطي مع القضايا الثقافية والاجتماعية المختلفة، ما مكانة الحداثة اليوم؟ وكيف تقيمون جيل مبدعيها؟ - هذا سؤال مطروح بطريقة خاطئة جداً... لا يمكن طرحه على هذا النحو، إذا ما كنت تؤمن فعلاً بأنك تطرح السؤال بغرض الإفادة منه آنياً وعلى نحو مستقبلي أيضاً... لا يوجد شيء اسمه الحداثة بمعزل عن السياق المواكب إليها وبملابساتها الظرفية وقتئذ... يوجد شيء آخر اسمه الحداثة الآن... بمعنى Recent Modernism لماذا... طبيعي لأن عصر التنوير في أوروبا الذي بدأ مع تشوسر كان عصر حداثة لما هو آيل قبله. وعصر الملكة اليصابات أو إليزابيث كان أيضاً بدوره عصر حداثة وعندما ترجم الملك المثقف جيمس الإنجيل من اللاتينية إلى الإنكليزية بملابساتها البلاغية وقتئذ نوعاً ما كان يمارس الترجمة ونقل المعارف الدينية على نحو حداثي، وفقاً للعصر والزمان الذي حدثت فيه هذه الترجمة التي أسميها من ناحيتي نقلة معرفية حديثة قياساً على ما سبق وجوده لاتينياً - هنا فقط دعني أجيبك... الحداثة هي استمرارية نقل معارف مَن قبلنا بما يضيف إليه من معارف عصرنا - ومن بعد ذلك إذا انتهينا من أدوارنا وتأتي حداثة أخرى بمفردات ونواقل وشواهد تختلف عن ما أضفناه إلى المعرفة... فقط هنا نبقى تاريخاً آيلاً للإضافة أو النقض والتعديل... وما يأتي بعدنا يثير حراكاً آخر من نوعه متأثراً بظرفه وملابساته وبذلك ينتقل المصطلح تاريخاً وتعريفاً إلى ما هو آتٍ من بعدنا... فالحداثة تماماً هي كالذات... التي انشغلت بالبحث عنها قبل قليل في سؤالك حول «ما سيرتك الذاتية» - عموماً لن أشغلك كثيراً، ولكنها الذات الجمعية. هل يمكن أن تعطي أمثلة من الواقع الثقافي المحلي؟ الشاعر محمد الثبيتي وعبدالرحمن الصيخان وفاروق بنجر وكذلك الشاعر محمد الحربي وأضف إلى ما تقدم الشاعر محمد العلي والشاعر علي الدميني، سيصبحون قريباً تاريخاً آيلاً للحداثة... لن يكونوا حداثيين. لأنه سيأتي من يمارس المداخلات في عمق حقوق الملكية الفكرية الآيلة إليهم. ذات مرة مارس هذا النوع من المداخلات على نحو آخر الشاعر عبدالمحسن بن يوسف حليت عندما اقتحم في عمل شعري معلقة جاهلية رائعة جداً من البحر الوافر - لقد شاخت ذاكرتي قليلاً فقط - ها أنذا أذكر البحر إليك وأنسى اسم الشاعر الجاهلي - عموماً لا توجد حداثة مستقرة في الشعر. ليس معنى هذا أنها تفنى ولكنها تستحدث تماماً كما حدث من أيام زمان زمان جداً مع الحرف الفينيقي. لقد أحيا التاريخ بقايا هذا الحرف وعمل على ترحيله من ذاكرة إلى ذاكرة وفي النهاية الألف - با - تا - ثا - أو لنقل أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت أو لنقل ألفا - با - جا- تا - بطابعها الإغريقي القديم هي جميعها تنتمي إلى الأب الايتمو- فينولجي القديم وهكذا دواليك. وحتى الحرف العربي المتداول منذ أيام أبي الأسود الدؤولي هو حرف حديث إلى ما سبقه فقد كان القديم مهملاً والآتي إلينا بفعل عملية التنقيط صار بعضه مهملاً والآخر معجماً على مستوى الكتابة، تبياناً بإظهاره وليس على مستوى النطق. إذا تأمل في هذه - فقطعاً ستصل إلى حلول مع تلك. ما الذي كان يحدث في ملحق «الأربعاء» الذي كنت تكتب فيه خلال فترة الثمانينات وما بعدها؟ جئت إلى ملحق الأربعاء الثقافي تقريباً في منتصف الثمانينات - كانت هناك قبلنا مرحلة سباعي عثمان - وعبدالله الجفري رحمهما الله جميعاً ورحم الله صديقي العجوز جداً أحمد شريف الرفاعي وآخرين أيضاً آلوا إلى رحمة الله. لقد انشغلنا لفترة من الوقت بالرهان الثقافي إبان تلك المرحلة. كانت الأربعاء في عهدة محمد صادق دياب وكان الآخرون يطلقون عليها المدرسة التوفيقية والواقع أنها لم تكن توفيقية ولا يحزنون. كانت الأربعاء تمارس قدراً كبيراً من مرونة الموقف الثقافي ولم تكن مدرسة متشددة أبداً وهي ليست بالحزبية إذا شئنا التعبير على نحو ثقافي... وشهدت الساحة السعودية في الثمانينات حواراً ثرياً من نوعه، وكانت هناك المعارك الأدبية، وإذا شئت لنقل قادت الأربعاء الكثير والكثير من الغارات الثقافية.. اسمح لي باقتراح كلمة غارات - لأنها الأنسب والأكثر التصاقاً بالواقع الثقافي وقتئذ.. والواقع أن تلك المعارك والغارات منحت الساحة الأدبية لدينا نوعاً من الحراك الأدبي بسجالات ثقافية متعددة المشارب. وللواقع لم تكن الأربعاء تهدأ على مدار الأسبوع، فقد كانت تدوي مثل خلية النحل - ومن وجهة نظر شخصية اعتقد أن الأربعاء بطروحاتها المميزة وقتئذ أدت إلى إشعال فتيل «ملاحق أدبية» أخرى، إذ من الواضح أنها دفعت بذاكرة بعض الصحف إلى تأسيس ملاحق على هكذا نحو - وللتاريخ فقد كانت الأربعاء منذ أيام الآيل إلى رحمة ربه غالب حمزة أبو الفرج ولاحقاً عبدالله الحصين، وبقيادة المايسترو التربوي المثقف الرائع محمد صادق دياب مناراً ثقافياً ومرفأ أدبياً يأوي إليه حملة الأقلام والأدباء الهاربون من عدم الوفاق في الموقف الأدبي شعرياً ونقدياً مع ملاحق أخرى. في تلك المرحلة اشتعلت «الأربعاء» بالحراك الأدبي درجة الخصومات والنطاح النقدي.. كان هناك الرائع جداً عبدالله الغذامي والدكتور سعيد السريحي والشاعر الثبيتي والشاعر الحربي والصيخان أيضاً، ناهيك عن الدميني وعدد غير قليل من كتاب القصة القصيرة مثل دكتور نعمي ودكتور عبدالله باقازي وغيرهما من الأدباء بالعشرات ممن لا استطيع الضغط على ذاكرتي لاجترارهم على السطح. كان أولئك الناس وغيرهم مصادر ثرية بالخصومات الأدبية والملاحقات الثقافية... وطبعاً لا أنسى أن الأربعاء أعادت نتاج الذاكرة الشعرية والأدبية لكثير من الكاتبات ممن هن وقتئذ كن في طور المحك الروائي، وأياً كانت عليه الحال فمن بين الخدمات الثقافية التي أسداها ملحق الأربعاء هو أن هذا الملحق أعاد نتاج وتأسيس مرحلة السبعينات أدبياً وثقافياً هكذا أعاد نتاجها... ولولا وجود الأربعاء باشتعالاته لربما كان من الصعوبة بمكان لكثير من المطويات الأدبية التي رسمت ظهور أول صوت أدبي من خلال مؤتمر الأدباء السعوديين الآيل إلى منتصف السبعينات الميلادية - أن تضيء الذاكرة الأدبية عن تلك المرحلة والتي تعتبر مرحلة تأسيس أدبي أكيد للواقع السعودي! هذه هي شهادتي أسوقها كما رأيت وشاهدت وأيضاً كتبت. أنت متخصص في اللغة الإنكليزية لكنك تجيد لغات أخرى أيضاً، وسبق لك أن اتهمت أحد النقاد السعوديين بترجمة خاطئة لأحد الكتب. على ماذا بنيت ذلك؟ - أمارس التدريس باللغة الإنكليزية وقمت بتدريس مادة الكتابة الأكاديمية، وأقرأ بلغات متعددة أخرى ومغرم جداً بقراءة النصوص قديمة وحديثة وقدر الإمكان من خلال لغاتها الأصلية، هذا صحيح إضافة إلى كوني قضيت وقتاً أدرس فيه - متعلماً - اللغة الفرنسية والإيطالية. واجتهدت كثيراً لتخريج بعض النصوص بالفارسية أثناء معالجتي لبعض رباعيات الشاعر عمر الخيام النيسابوري... وهي تظل هواية ورغبة يحفها الاجتهاد واستخدمها لدى ممارستي البحث متحققاً أو محاولاً عملية الربط بين مفهوم ومفهوم أو فكرة وأخرى في ثقافتين استناداً إلى التاريخ. لكنني لم أتهم أحد المثقفين بترجمة خاطئة لأحد الكتب من عدمه... لقد كان الخلاف حول كلمة واحدة وذلك المثقف هو صديقي دكتور سعيد السريحي - الخلاف كان حول كلمة واحدة فقط لا غير، وهذا الخلاف يحدث لدى عموم المشتغلين بالوراقة.. والموقف قديم جداً جداً وهو لا يحتاج إلى إعادة تأسيس من عدمه، فقد أراد الرجل بنقله من الفرنسية إلى العربية أن يكتب عبارة إمبراطورية الإشارات أو إمبراطورية العلامات فقدم حرفاً في الكلمة الفرنسية وأخر - بتشديد الراء المهملة - حرفاً أثناء عملية الطباعة فصار معنى العبارة إمبراطورية القرود.. وهذا التخريج لم يأت من باب الاشتغال بالفكرة وأدواتها وإنما جاء من باب ممارسة الغارة الثقافية على صديق أو أخ أو جار - فقد كنت من خلال الأربعاء أستمتع بشن الغارة تلو الأخرى- وبدوره كان هناك من ينتظر أن يرد الغارة بمثلها - وعلى قول الشاعر أو بما هو آت بطيه ومعناه - «إن لم نجد إلا بكراً أخانا». وعلى أية حال فالرجل أخي وصديقي والاختلاف الثقافي بتربص أو من غير تربص لا يفترض أن يفسد قضايا الود. في ظل الكم الهائل من الروايات العربية والأجنبية المترجمة، ما تقويمك لواقع الرواية العربية عموماً، والسعودية بوجه خاص؟ - الرواية هي ديوان العالم. هذه حقيقة... وإلى هذه اللحظة فهي تتصدر عموم الأجناس الأدبية الأخرى.. وليس هناك من يزايد على الرواية ولا الحس الروائي في العالم، فقد وصلت الرواية ذروة المجد الأدبي والفكري وإذا كان السقوط قدراً محتوماً إليها، فهي لن تسقط الآن. إذا سقطت الرواية فستسقط السينما وستسقط الدراما... والرواية منذ صارت الوريث الشرعي أدبياً للمشروع الدرامي، فإن ظهور الوسائط يخدم بقاء الرواية في الزمن التكنولوجي... وأما الرواية السعودية فقد استفادت جداً من تطور الرواية العالمية، ناهيك عن كونها استفادت أيضاً من توافر الوسائط لها، وهذه الوسائط ستخدم الرواية السعودية، وطبعاً فالشواهد الروائية على نحو سعودي موجودة وتتوافر لها القدرة التنافسية مع الرواية الأخرى... ومن الشواهد أيضاً أن معرض الكتاب في الرياض وبقيادة المايسترو عبدالعزيز خوجة خدم مشروع الانتشار الروائي السعودي إلى حد بعيد جداً، ناهيك عن تقديره للروائي العزيز عبد خال، وشخصياً يوجد روائيون سعوديون كثيرون - ذكوراً وإناثاً - قادمون بقوة، وستكشف الأيام عنهم، هذا غير من ترجمت أعمالهم إلى لغات العالم. ما رأيكم بالدور الذي تقوم به المؤسسات الثقافية الرسمية؟ - الدور الرسمي الذي تقوم به المؤسسات الثقافية الرسمية، فهو لا يكفي... لا يكفي... لا يكفي... المزيد من الدعم والمزيد من فضاءات الحراك. وعلى أية حال مجيء الدكتور عبدالعزيز خوجة رائع وهو يمارس بأفكاره ونشاطه قدراً رائعاً من التألق غير مسبوق إليه. أين يمضي الحراك الفكري العنيف الذي تشهده الساحة الثقافية السعودية من سنوات؟ - الحراك الفكري السعودي ماضٍ إلى محطة وسينفذ منها في الوقت الصحيح. هناك من يضع رابطاً بين مرحلة التنوير الأوروبية والمرحلة العربية التي نعيشها الآن، إلى أين يتجه التنوير العربي؟ - لا توجد علاقة بين التنوير الأوروبي والمرحلة العربية. ليس من الضروري أن يسلك التنوير العربي المسار التنويري الأوروبي نفسه.. وحتى التنوير الأوروبي لم يسلك الطريق نفسه إذا قسمنا الموقف الأوروبي إلى وحدات. ومع ذلك فالتنوير الإنساني له هدف واحد، وهو تحرير الإنسان من الجهل، ومما يلزمني حوله الكلام. النهضة الأوروبية انطلقت من إيطاليا.. ولكن الحرية الأوروبية لاحقاً وبعد بضعة قرون لم تنطلق من روما. لقد انطلقت من أمستردام في هولندا.. وشتان ما بين الدافع الإيطالي تاريخياً وما بين الدافع الهولندي حديثاً في بداية القرن العشرين ممثلاً في الورود البيضاء التي ألقت بظلالها في نهاية المطاف على ثورة الطلاب في باريس قبل بزوغ شمس السبعينات بعامين.. لكي نفهم يجب أن نقرأ التاريخ.. وحتى التنوير البريطاني، فقد كان مختلفاً عن التنوير الإيطالي.. لقد قاده الملك الليبرالي هنري الثامن ضد بابا روما وقتئذ. هذا شيء والتنوير العربي شيء آخر. التنوير العربي ذات مرة جاء إلينا بصيغة ثورية.. وفي حين جاء إلينا بصيغته البعثية وحيناً جاء اشتراكياً وحيناً آخر يأتي بصيغة أخرى وعلى قدر أهل العزم تأتي أو تؤتي العزائم، وهذا ليس تقليلاً له ولا إمعاناً في جلده، بل على العكس يجب عليه أن يعي ذاته- إذا وعى ذلك، فهو يستطيع ويستطيع أن يتلمس طريقه.. ولكن من الصعوبة بمكان أن نقارن أمة اخترعت آلات الطباعة منذ قرون، وفجرت المعرفة وفي القرن الثامن عشر كانت تتداول مئات المجلات والصحف والدوريات وعرفت مراكز الأبحاث لقرون طوال، بأمة أخرى بالكاد تحاول إعادة نتاج ذاتها من أول وجديد. هذا ليس عيباً ولكنه الواقع، وعلينا تقبله واحترامه والتفاعل معه - لكي نمارس نتاج ذواتنا عبر نوافذ الوعي والمعرفة. ما رأيك بالجيل الجديد من الكتّاب السعوديين الذي يوصفون أحياناً بالتنويريين؟ - الكتاب السعوديون الجدد بالفعل يمارسون التنوير وسيأتي جيل آخر من بعدنا أيضاً يستطيع أن يقود. إنهم يتحدثون وينتجون ويفكرون على نحو صحيح، وهم أكثر جرأة في تناولاتهم الفكرية بما يمكنك الاعتماد من خلاله على الإفادة.. غير أن الإفادة الفكرية لا تتحقق بين عشية وضحاها.