شكل تراجع دور اليسار الفلسطيني أبرز السمات العامة التي باتت تطبع الحياة السياسية الفلسطينية منذ أكثر من عقد من الزمن، حتى بات من المسلم به أن هذا اليسار يعيش اليوم على هامش الفعل والتأثير، في ساحة تعج بمختلف الألوان الفكرية والسياسية. خير شاهد على ذلك ما أفرزته الانتخابات التشريعية عام 2006. فاليسار فقد حضوره، بعد أن كانت الفصائل الفلسطينية اليسارية تتحرك ضمن مساحة سياسية وشعبية معقولة، فكانت نتائج الانتخابات التشريعية تعبيراً صافياً عما انتهت إليه غالبية فصائل اليسار. إن تراجع حضور وفعالية فصائل وقوى اليسار الفلسطيني لم يأت من فراغ، بل جاء بعد سلسلة من الانتكاسات التي حلت به سياسياً وتنظيمياً، خصوصاً مع تمزقه الى عدد كبير من الفصائل. واليوم، يجد اليسار الفلسطيني نفسه أسير تراثه من الأدبيات ذات الطابع الإنشائي، يعيد إنتاج الثقافة والسياسة بتعابير متخصصة من أرشيف بال، بثقافة وسياسة تطغى عليهما تعاليم غاية في الجمود، عدا المشاغلات الداخلية بين فصائل اليسار، فبقي بعضها في خانة الذين يصعب تصنيفهم أو تمييزهم، حيث اختاروا المنطقة الرمادية تحت عناوين محشوة بلغة الديماغوجيا السياسية، متخذين عادة النفاق السياسي كطريق، لا يعرف الضوابط. إن تمزق اليسار الفلسطيني وتعدد فصائله جعل منها حالة تستخدم في سياقات اللعبة الداخلية في إطار منظمة التحرير، وفق صفقات يستقر بها المطاف بالتمثيل في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومؤسساتها الوطنية، فكانت هذه المحاصصة إلغاء للسياسة اليسارية المعلنة، والداعية الى بناء المؤسسات الفلسطينية على أساس ائتلافي ديموقراطي بعيداً من منطق التبعية والاحتواء، وعليه فقد حذف مفهوم المحاصصة الذي قاتل اليسار من أجله، الخطاب السياسي المعلن لبعض فصائله، ودفع به الى مسار عملي آخر في البحث عن نصيبه في كعكة السلطة، فكانت معظم فصائل اليسار حاضرة في القرار السياسي في الشكل وغائبة في المضمون. وعليه تحولت غالبية قوى اليسار إلى «ديكور يساري» فقط في إطار «ديكور ديموقراطي» في بنية أتخمت بالصراعات وبالتنافس غير المبدئي المغرق في الذاتية الشخصية والتنظيمية، على رغم ما شكلته «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» من تصادم سياسي كان يتواصل بين الحين والآخر مع سياسات الاتجاه الرئيسي في المنظمة، مع التأثيرات الواضحة لشخصية الدكتور جورج حبش وللشهيد أبو علي مصطفى المثقلة بالتعفف الأخلاقي. والمثير للدهشة أننا قلما نجد تقييماً ونقداً جاداً ذاتياً في هذا المضمار، فقد ساهم غياب النقد الذاتي الحقيقي في تعميق أزمات اليسار، وفي هذا السياق، فهو يتحمل مسؤولية مهمة عن ولادة مستنقع المظاهر السلبية من «انحطاط» الحالة الفلسطينية، بما في ذلك الاستخدام المزدوج للخطاب السياسي، واستيراد المبررات من «نيو سوبرماركت الشعارات» حين ضرورة اللجوء إليها. من الطبيعي القول أن جانباً مهماً من أزمات اليسار الفلسطيني استولدت نفسها من رحم الأزمات الذاتية الداخلية حين حملت ظواهر نقيضة للشعارات المعلنة، كالاستبداد الداخلي وغياب الديموقراطية الحقيقية وسيطرة الفرد أو مجموعة من الأفراد، وبهذه الممارسات تحولت القوى اليسارية الفلسطينية الى فصائل طاردة لأصحاب الكفاءات. ومن هنا فإن النزف الذي أصابها جميعها بدأ في غالبه في قلب هرم التنظيم أو الحزب أو التكوين السياسي، وتحديداً في صف الكادر المتمرس بالعمل وبميدان التجربة، لينتشر في المستويات كافة. لقد فقدت القوى اليسارية الفلسطينية الغالبية الساحقة من كوادرها وهيئاتها في معمعة الصراعات الداخلية، وتحولت إلى بؤرة صراع ومواجهة بين تيارات اختلفت وجهاتها، وفقدت الصبر والقدرة على التعايش، وتصرفت على هذا الأساس لتطفو على السطح دفعة واحدة اتهامات واتهامات مضادة من العيار الثقيل. ولنا أكثر من مثال حي في التجربة الفلسطينية التي نتكلم عنها، وليس أبعدها الانقسام الذي أصاب أحد هذه الفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير عام 1991، وهو انقسام رافقته أبشع النعوت المتبادلة بين طرفي الانقسام، لينشطر التنظيم نهاية الأمر أفقياً وعمودياً، وليتبين بعد ذلك أن جذور الانقسام لم تكن تستند الى خلفيات سياسية أو حتى فكرية أو ذات بعد وطني، بل جاءت في جوهرها على خلفيات لها علاقة بصراعات مريرة غير مبدئية تغذت من الحسابات الضيقة ومنطق الإقصاء والتآمر الداخلي، وهو أمر ما زال يلعب دوراً رئيسياً في توالد الانقسامات اليسارية وبالتالي في إضعاف اليسار وتوالد أزماته. * كاتب فلسطيني