رواية «الحمام لا يطير في بريدة» للروائي السعودي يوسف المحميد من الروايات التي تسيطر على قارئها من خلال شخوصها ويصعب أن يتركها جانباً، قبل أن يعيش أحداثها وعوالمها، فالرواية تنقلك من القطارات العابرة من لندن إلى مدينة «قريت يارموث» الهادئة التي يعيش فيها بطلها بعد تجارب مريرة وحزينة في بلده الأم، تنقل الرواية على شكل «الفلاش باك» وكأنك تشاهد فيلماً سينمائياً، فالبطل فهد هو نتاج مرحلة سياسية واجتماعية مر بها مجتمعه، وتلك التجارب والمغامرات في معظمها يتسم بالحزن والسوداوية في بلد ومجتمع أتى عليه التغيير بشكل سريع وكان له ضحاياه. والد فهد بطل الرواية سليمان الآتي من قرية ملاصقة لبريدة، الذي ولد في ليلة كان القمر خاسفاً، خلق انطباعاً بأن وجهه شؤم على عائلته، سليمان الذي انتقل إلى العاصمة لكسب الرزق تعرض لتجربة سياسية عند انضمامه لجماعة سلفية متشددة، ولكنه تركها قبل أن تقتحم الحرم في 1979، ولكن ذلك لم يشفع له أن يعيش بسلام؛ فقد دفع ضريبة انضمامه لتلك الجماعة أربع سنوات قضاها خلف القضبان في سجون متعددة في بلاده، وقد التقى في تلك المرحلة زملاءه السابقين في التنظيم الذين شاركوا في العمل العسكري ضد الدولة، وشاهدهم يُقادون إلى المقاصل في فترات متقاربة، ويتذكر منهم صديقه مشبب الآتي من الجنوب، الذي أودع لديه وصية بأن يرعى ابنه سعيد من بعده، وكم شكر ربه انه ترك تلك الجماعة في وقت باكر وإلا كان مثلهم الآن في العالم الآخر. سليمان بعد خروجه من المعتقل عايش كثيراً من المصاعب الاجتماعية والاقتصادية ولكنه وبإصراره بدأ عملاً بسيطاً يقوم بتوزيع الصحف على الإدارات الرسمية، وعند إحدى المؤسسات الحكومية تعرف على محاسب من الجنسية الأردنية، الذي توثقت علاقته به، وشجعه ذلك المحاسب على تطوير ذاته بالدراسة المسائية وهو ما حدث، وفي مرحلة لاحقة أخبره سليمان برغبته في أن يخطب ابنة المحاسب الأردني سها، وتردد كثيراً بأن يخبره عن ماضيه السياسي وتجربة الاعتقال التي مر بها، خوفاً من أن يلقى الجواب نفسه من عوائل أقاربه وجماعته الذين يردون على والدته وجدته بأن «البنت فائتة»، ما كان يولد الحنق لدى افراد عائلته، خصوصاً جدته التي كانت تردد أن سجنه سياسي وهذا عمل رجال. عاش سليمان حياة هادئة بعد زواجه من سها التي بادلها حبها بحب أكثر ورزق منها بطفلين فهد ولولو، ويتذكر فهد أجواء منزلهم الذي كانت تصدح فيه فيروز واللوحات الفنية التي كانت ترسمها أخته والأماسي الجميلة التي كانوا يقضونها مع والدتهم في الملاهي والمطاعم مع أخته وصديقه سعيد بن مشبب، الذي وفى والده بوعده لمشبب أن يرعاه ويصبح له كالأب بعد مغادرة والده عالمنا على خلفية تلك الحادثة المشؤومة. وكما في معظم أحداث وعوالم الرواية المليئة بالمشاهد والموقف الحزينة والفاجعة لم يستمر ذلك الهدوء والسعادة في حياة عائلة سليمان عندما فقدته بحادثة سيارة حين كان مسافراً لبريدة في صباح جميل، ونعيش الآن مع فهد الذي عاش اليتم وتجربة موت والده وهو ابن ال «15 عاماً»، وعاش في عالم مليء بالمصاعب والتحديات بعد فقدانه لوالده وحبيبه، وكان في بعض اللحظات يصرخ في داخله متوسلاً من والده أن يخرج من قبره في مقبرة النسيم، ويأتي بأسرع وقت لإنقاذ منزله من الانهيار، إذ قام عمه المتشدد بمساعدة جده وخاله بإقناع والدته بأن تتزوج عمه الذي ورث كل بقايا والده؛ فانقلب منزلهم إلى بيت هم وحزن بعد زواج عمه من أمه، فاختفت أغاني فيروز وحل مكانها أشرطة صراخ وعذاب الموت والقبر، لم يستطع فهد أن يبقى في ذلك البيت بعد دخول عمه فيه، خصوصاً بعد أن قام عمه بتمزيق صور والده العزيزة عليه، لقد رحل بشكل متدرج مع صديقه وأخيه سعيد في شقة الأخير في شمال الرياض، التي عاشت مرحلة أخرى من حياته، خصوصاً علاقاته الغرامية وما تخللها من تجارب وقصص مع حبيباته اللاتي لكل منهن حكاية. هذه الرواية تؤرخ لمجتمعنا من الناحية الاجتماعية وما تعرض له من إرهاصات كبلته في ال30 عاماً الماضية، إذ تسلطت عليه قوى ظلامية مستغلة الدين لتنفيذ برامجها السياسية. [email protected]