يقدم لنا عاطف عبدالمجيد ترجمة دقيقة وصافية لرائعة الكاتب الفرنسي الأشهر أنطوان دو سانت أكسوبري الموسومة ب «الأمير الصغير» والصادرة في طبعة جديدة ضمن سلسلة «المئة كتاب» التي تصدرها الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة بإشراف رفعت سلام. تلك الرواية التي يقرأها الكبار والصغار على حد سواء والتي يطرح كاتبها أسئلة عدة، معتبراً أن السؤال أهم دائماً من الجواب، لما يحمله من معاني التأمل والدهشة والإبهار. ولأن الكبار لا يفهمون أفكار وأحلام ولغة الصغار، ودائماً ما يفسرون علاقتهم بالأشياء بمنطق مختلف وجاف يصدم عوالم الطفولة الرقيقة وسحر أسرارها، فإن لهؤلاء الصغار ردود أفعالهم التي تتأصل في تكوينهم اللاحق، وتغذّي مخيّلتهم بصور مغايرة للمألوف، وساخرة في الوقت ذاته من هؤلاء الذين يحاولون تعطيل لغتهم وقدرتهم على التحليق والابتكار. إن هذا هو ما حدث بالفعل مع طفل أكسوبري ابن السادسة الذي رسم صورة لحيّة «بوا» تبتلع فيلاً، استوحاها من قراءاته لكتاب عن الغابة البدائية، لكن لم ير من كان حوله من الكبار في تلك الصورة إلا شكل قبعة رأس، وقد أثاروا بفهمهم الخاطئ هذا خيبة أمله، ما اضطره لترك الرسم إلى غير رجعة. إن قرار الطفل المحبط، فيما بعد، باختيار مهنة قيادة الطائرات يعد واحداً من ردود الأفعال المتحدية لعالم يُحسن فيه الكبار لعبة ورق البريدج، والغولف، والسياسة، وربطات العنق، وقيادة الغواصات العملاقة، ولكنهم لا يفهمون ما يرسمه طفل صغير على الورق، إنه قرار الطيران بعيداً من سوء الفهم والإدراك. من خلال خيال ذلك الطفل الذي يسكن في داخله، يرسم أكسوبري عوالم روايته أو حكايته، التي تشبه رسوم الصغار، وهي تنتهك بألوانها المتداخلة، وخطوطها المتنافرة باتجاهات لا تمسكها بؤرة واحدة، أو إطار يشكلها وفق حدوده الثابتة والمقيدة لانتشار الفكرة متهكمة على منطق لا يرى بأكثر من زاوية رؤية ضيقة وعقيمة. وقد قصد أكسوبري أن تكون الفاصلة حادة بين حياة الطفل وعالم الكبار، حيث لم ترد أية إشارة لمرحلة ما بعد طفولته، ولحين أصبح طياراً كأنما أراد بذلك أن يمنح أجواء حكايته نقاءً خالصاً يظل فيها بطله طفل الصورة الحالم، والطائرة مجرد وسيلة لوجوده في مكان يحقق له حرية الحلم والطيران بعيداً من تدخلات الكبار المفسدة لكل مخيّلة حرة، مكان تأخذ فيه روح الصغار الفكهة وأفكارهم التهكمية مداها الأوسع والمؤثر. فالأمير الصغير، القادم من كوكب لا يزيد حجمه عن حجم بيت عادي، هو مرآة للطفل الرسام- الطيّار، أو هو أكسوبري نفسه، الذي يعرف أن الكبار لا يصدقون الأشياء بسهولة، ويميلون دائماً للتفكير في الحقائق والأرقام التي يسيّرون بها حياتهم، وبها يفهمون ما حولهم، وقد يكون قراء الرواية من ضمنهم، فيرقّم ذلك الكوكب ويطلق عليه (الجرم ب-612) عسى أن يصدق أولئك الذين لا يسألونك عن صوت صديقك، ورياضته المفضلة، وحبه للفراشات، بل يسألون دائماً عن عمره، وعدد إخوته، وكم تبلغ ثروة أبيه، ويجسّد أكسوبري كذلك قوة العلاقة، وصفاء مراياها العاكسة لينبوع البراءة بين الطفل الرسام- الطيّار والأمير الصغير، عبر طلب الأخير من الأول أن يرسم له خروفاً وبيتاً صغيراً لذاك الخروف. وبذلك يعيده إلى صلته الأولى بذاته، وإلى ثقته بملكاته التي حاول الكبار زعزعتها، كما يتحدث له عن عالم مختلف في كوكبه الصغير، حيث زهرته الوحيدة المتفتحة بزينتها وجمال ألوانها، وما يوفره لها من غذاء وستر يحميها من تيارات الهواء، وحتى البركان هناك لا يفعل أكثر من تسخين فطوره. إن طفل أكسوبري يبدأ دعاباته الساخرة من عالم البشر، عبر أفكار ورحلات الأمير الصغير بين الكواكب، فهنالك الملك الذي يرى كل الناس رعايا وعبيداً، معتقداً بأن في يده مقاليد كل شيء وعلى النجوم أن تطيعه أيضاً، هكذا يعيش وحيداً في (جو سلطة رفيع)! والمغرور في كوكب آخر يبحث عن المعجبين، وعمن يصفق له، وإن كان أميراً صغيراً في زيارة طارئة، فهو لا يريد أن يسمع شيئاً غير المديح والإطراء. أما مدمن الخمر في كوكب ثالث، فهو يسكر كي ينسى أنه خجلان من الشُرب، حيث يعيش وحيداً. ونجد رجل الأعمال، في كوكب رابع مشغولاً بعَدِ النجوم في السماء، موهماً نفسه بأنه يمتلكها بمفرده، وبأنها ستجعله يوماً ما غنياً. أما في الكوكب الخامس الذي لا تكفي مساحته لأكثر من قنديل، فقد أصبح اليوم بسبب سرعة دورانه دقيقة واحدة تكفي لإضاءة القنديل وإطفائه فقط، ولم يفكر مُوقد القنديل، في أنه مجرد أن يخطو بضع خطوات سيكون في نور الشمس وقد يدوم النهار طويلاً، ولأنه (يفكر في شيء آخر، إلى جانب نفسه) لم يرد الأمير الصغير، أن يجعل منه أضحوكة، كما الآخرين، بل تمنى أن يكون صديقاً له، ولكن كوكبه لا يتسع لاثنين. وفي الكوكب السادس، حيث يعيش مؤلف كتب الجغرافيا، الذي لا يعرف شيئاً عن تضاريس كوكبه، لأنه يعتمد دائماً على ما يرويه المستكشفون عند مرورهم على كوكبه، وهكذا فإن هذا الجغرافي قد يسجل جبلين مكان جبل واحد، حينما يمر عليه مستكشف ثمل. وحينما يصل الأمير الصغير إلى الكوكب السابع- الأرض، تتضح فكرة أكسوبري عن كواكب الأمير الأخرى، وهي لم تكن في نظره إلا (صورة زائفة) أراد بها الدعابة والسخرية من مروجي خطاب مخاطر الكثافة السكانية على كوكب الأرض وبأن البشر يحتاجون السكن في كواكب أخرى، فالأمير الصغير لا يصادف بشراً في تلك المساحة الواسعة من الأرض. ولكن الكبار، كعادتهم في عدم الفهم، فإنهم لا يصدقون إن قلتَ لهم أنه بالإمكان تكديس سكان الأرض في جزيرة صغيرة من جزر المحيط الهادي، وبأنهم لا يشغلون أكثر من «ساحة عامة طولُها عشرون ميلاً وعرضها عشرون ميلاً» حال وقوفهم مجتمعين، وذلك لأن إحساسهم بالتسلط، والغرور، وحب التملك، وعبادة الأرقام، يجعلهم يعتقدون دوماً أن مساحة كوكب واحد لا تكفي. كما أن أحاسيسهم هذه قد خرّبت العلاقة في ما بينهم، وبين المخلوقات التي تسكن بجوارهم، فاعترافات الثعلب للأمير، تظهر بجلاء فكرة أكسوبري عن تلك العلاقة المهترئة، وبأن البشر قد ابتعدوا بسبب سوء الفهم والأنانية المفرطة عن تلك المخلوقات، فلا يهمهم إن كانت زهوراً أم ثعالب. (ليس لدى الناس مزيد من الوقت ليفهموا أيّ شيء، هم يشترون أشياء مصنوعة من الدكاكين، لكن لا دكان يمكن أن تُشترى منه الصداقة) فمن حكمة الثعلب هذه، فهم الأمير الصغير عماء البشر، وابتعادهم عن لغة القلب والشعور التي يمكنهم، بوساطتها أن يُدجّنوا الأكثر شراسة وحيلة على كوكبهم، وقد وصل الأمر بهم إلى تصنيع أقراص تروي العطش، نافرين من ينابيع المياه العذبة وآلاف الزهور التي تتفتح هناك. ومن قسوة الحياة على هذا الكوكب، تعلّم الأمير الصغير أهمية أن يكون قريباً من زهرته المتفتحة على كوكبه الصغير. وبقي أكسوبري الذي ظل وفيّاً هو الآخر للكوكب الطائرة الذي عاش فيه حتى الموت، خائفاً من أن الكون لن يبقى على حاله، وذلك لو سمعنا يوماً، أن خروفاً أكل زهرة!