«انقلاب الصورة» برنامج دعائي يُبث من قناة «العالم» الإيرانية الناطقة بالعربية. مُقدّموه يمثّلون بالصوت والحركات وتعابير الوجه دور من يريد إقناعك بهدوء، أو بصخب مثقاب كهربائي. أنت حرٌ. لكن عليك أن تقتنع. موسيقى مرافقة ومشهد لأرضٍ يباب خراب. جدرانٌ مهدمة، ونوافذٌ حديدية عارية، وأسياخٌ حديدية ناتئةٌ من الأساسات والجدران، وكتلٌ ودعائم إسمنتية ملقاة على الأرض. المشهد يوحي بأن حرباً مرت من هنا. ليست أيّ حرب، ربما كانت نووية أو ما شابه. ثم تدخل الكاميرا متنقّلة، وبين لحظة وأخرى يأتي في محرقها أسماء مؤسسات إعلامية سعودية mbc وإيلاف والعربية. اسم الأخيرة مكتوب بطريقة عدْلة مرّة، وأخرى مقلوبة كما لو في مرآة. والألوان المستخدمة في المشهد محصورة في الرمادي، ولون صدأ الحديد، والبرونز المعفّر، والأصفر، والأسود، والبنيّ الوسخ، كل الألوان كابية معتمة وقابضة للنفس. قبل لحظة واحدة من توقف الكاميرا على لوحة بلون أصفر كتب عليها اسم البرنامج، هي الوحيدة ذات اللون الأصفر النقي. ثم تتبارق خطوط تماسٍ كهربائي أو خطوط برق مُتكسّر. قد يخطر بالبال أن هذ الخطوط المتكسرة ستكون مُضيئة مما يحتم رسمها بألوان ساطعة أو فاتحة أو على الأقل رمادية. لكن لا. فالفكرةُ الراغبةُ في مَحْق هذه الأهداف جعلت مبدع هذا التشكيل يرسم الخطوط البرقيّة باللون الأسود مترافقةً بصريف معدني. وفي اللحظة الأخيرة ونحن نحاول استيعاب خطوط البرق الأسود، هذه تمرّ حشرة، هي على الأغلب ذبابة كبيرة تصدر صوتاً معدنياً مقرفاً. واضح أن من اشتغل على الألوان، وكذلك على الموسيقى والصور، أرادوا أن يظهروا كرهاً واحتقاراً وتتفيهاً وإهانة غير مسبوقة، والأنكى هو وضوح الرغبة العدوانية في إبادة هذ الوسائل الإعلامية وجعل منشآتها خراباً يباباً تنعقُ فيه حشرة ذات صوت منفّر. إنها رغبة شريرة شديدة العدوانية. هي رغبة في الإبادة وليس فقط الانتصار على هذه الوسائل الإعلامية السعودية. يأخذ البرنامج المواد التي يشتغل عليها من الصحافة والإعلام العربيين، ويبدأ بتحليل مغرض على الأرجح، ثم يبني كل النتيجة التي يتوخّاها على الافتراض وليس على المادة الماثلة. دائماً هناك رواية مضمرة أو صريحة للتحليل. تتوسل الرواية وجهة النظر الإيرانية بإلباسها لبوساً إسلامياً عبر الديباجة الإسلامية المعروفة، مزينة بخطاب الممانعة العربي ولا بأس من إكثار مفردة فلسطين، فهي مثل الحبة السوداء في العجين، إن لم تنفع فلن تضر. يمكن للمرء أن يتابع حلقات هذا البرنامج عبر اليوتيوب إنْ فاتته المشاهدة الأصلية. ليس عليه إلا أن ينفذ إلى ما تحت الشادور الإيراني وإلى ما راء القناع المستعار، وهو هذه المرة كوفية فلسطينية، وسيجد عري الخطاب القومي الفارسي المتعالي. لا يحتاج الأمر للكثير من إعمال العقل ليدرك أن الآليات الفعلية التي يتوسل بها الخطاب لإنجاح استراتيجياته هي الفتن. فتنة هنا وفتنة هناك، وإضعاف دولة هنا ودولة هناك. والنتيجة كسبٌ لمصلحة من يُشعل الفتن ويحافظ على نفسه. لسنا نتجنى، وما على المرء سوى أن يتابع على اليوتيوب. سنأخذ كمثال حلقة 15 أيار، أي الأخيرة. يهمنا هنا محوران. الأول عن شبكة التجسّس لمصلحة إيران، والتي ألقي القبض عليها في الكويت. حيث يتابع البرنامج صحيفة «القبس» الكويتية ويوحي ويصرح بآن معاً بأنها تتجنّى على إيران، كما يتابع نقل قناة «العربية» عن «القبس» ويعتبره نقلاً مغرضاً. وترد جمل هنا تُظهر فيه المُعلقةُ أن قلبها على الكويت من جارتها السعودية وقناتها المترصّدة لإيران الوديعة. أيْ إنها تحاول إشعال فتنة صغيرة هنا. ثم تتابع النواب الكويتيين واتهاماتهم لبعضهم بعضاً، وتلمّح إلى أحداث سابقة يمكن أن تكون أرضية لفتن صغيرة أيضاً. وفجأة ترمي القنبلة قائلةً: «إن هذا لعب في النار لأن 35 في المئة من الكويتيين هم شيعة». دفعة واحدة نقفز من حدث صغير وتحريض على فتنٍ «ميكروية»، إلى التحريض على فتنة كبيرة تطاول وطناً بأكمله. من مجرد إلقاء القبض على جواسيس إلى 35 في المئة من الشعب. لا يهم ما تكون النتائج المهم أن تكون فتنة. والنسبة كافية لفتنة عظيمة. يضمر البرنامج فرحاً في سرّه. وتستمرئ القناةُ الفتن عبر تسخيف ما يقوله النائب الكويتي الطبطبائي من أن قضية شبكة التجسس يجب أن تؤخذ على أساس سياسي لا جنائي فقط، وعبر مدح ما نشره الكاتب الكويتي ياسر الصالح دفاعاً عن إيران، لتصل المذيعة إلى كلام لحسن نصر الله يفيد أن أكبر فتنة يحضّرها الأعداء للأمة هي الفتنة بين السنة والشيعة، ولتصل أيضاً إلى تَتْفيه كلام قاله زعيمان عربيان أياً كان محتوى كلامهما؛ هما حسني مبارك رئيس أكبر دولة عربية، والملك عبدالله ملك الأردن. وفي الواقع لم يكن غزو «حزب الله» لبيروت الغربية مخططاً من العدو، إلا إذا كان «حزب الله» يأتمر بأمر العدو، ولا التحرك الحوثي، ولا اللعب الخطير في العراق، ولا ولع وسائل الإعلام الإيرانية بالنسب المئوية للشيعة في البلدان العربية للتحريض عليهم وتحريضهم أيْ لخلق الفتنة، ولا حركة التشيع الواسعة «برطلةً» واستغلالاً لجوع الناس في سورية، ولا اقتراح إنشاء محافظة جديدة في إيران تسمى محافظة فارس وتضم الجزر الإيرانية في الخليج، وطبعاً بما فيها الجزر الإماراتية الثلاث، ولا الضيافة الفجّة التي تلقاها الرياضيون السعوديون والإماراتيون في إيران مؤخراً، ولا الخطاب التعبوي المستمر في تسخيف العرب ومحاولة الاستيلاء حتى على نسب نبيّهم. ومع ذلك استطاعت المذيعة وبنغمة الصوت ذاتها أن تتساءل في الختام مع من كتب التعليق: هل المسألة بما ومن فيها رمانة أم قلوب مليانة؟ المحور الثاني يوضح الآلية التي تكلمنا عنها أعلاه من افتراض شيء على هامش المادة موضع الدرس، والتركيز على هذا الافتراض، لا بل استخلاص النتيجة بناء عليه. المادة التي يجري حولها الكلام كتبها خضير طاهر وهو كاتب إشكالي واستفزازي. وفي المادة موضوع البحث هنا تطرف وتحريض يستمرئهما الكاتب. إنما ما ارتأى البرنامج أنه جدير بالإدانة والشجب ليس فقط مضمون المادة السخيف فعلاً، وإنما أيضاً جنسية الكاتب. لذلك ركزت المذيعة على الحروف وهي تلفظ كلمة «السعودية». البرنامج بنى إيغاله في تتفيه المقال على أن الكاتب سعودي، وإلا فإن كتاباً كثراً يكتبون مواضيع كهذه، بل إن صحفاً ومواقع إلكترونية بالعشرات وربما بالمئات متخصصة بمواضيع شتّامة كهذه. اللقيا الثمينة كما لو أنها من كنوز على بابا أن الكاتب سعوديٌ، وضمناً أنه «سنيّ». المشكل الذي أوقعت القناة نفسها فيه هو أن الكاتب ليس سعودياً. وهو كاتب عراقي معروف يقيم في أميركا. وهو من أصول شيعية. لا هو سعودي ولا سنيّ. هو إذن عماء الطائفية وإشعال الفتن الذي يجعل المرء لا يرى أين تدوس قدمُه. وبرنامج انقلاب الصورة حطّاب ليل وضحكٌ على ذقون السذّج. * كاتب سوري.