انتقل رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري أمس، الى نيويورك محطته الأميركية الثانية حيث قابل الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، وترأس جلسة لمجلس الأمن (لبنان يرأس المجلس خلال هذا الشهر)، مطلقاً «الحوار بين الثقافات من أجل السلام والأمن الدوليين»، وأكد أن «الحوار لا يوفق دائماً في إطفاء الحرائق، إلا أنه إذا مورس بجدية ومثابرة كثيراً ما يضعف احتمالات اشتعالها»، سائلاً: «كيف يمكن للحوار أن يبني الثقة ويؤسس لعلاقات جديدة، في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية والانتهاك المتمادي لحقوق الفلسطينيين الوطنية والإنسانية، وعلى رأسها حقهم بالعودة إلى دولة مستقلة عاصمتها القدس؟». وحضر اللقاء مع بان نائب رئيس مجلس الوزراء اللبناني الياس المر ووزير الخارجية علي الشامي ومندوب لبنان لدى الأممالمتحدة السفير نواف سلام والمستشار محمد شطح. ولم يدل الحريري بأي تصريح بعد اللقاء. ثم ترأس جلسة مجلس الأمن التي حضرها بان، وخاطب الحريري الحضور قائلاً: «بين التزام ميثاق الأممالمتحدة، واختيار الحوار سبيلاً إلى تحقيق السلم والأمن في العالم، علاقة وثيقة. ولا شك في أن الحاجة إلى النظر في معنى هذه العلاقة وإظهار جوانبها كافة دفع هيئات الأممالمتحدة إلى إعلان توجهات وإطلاق برامج. فمنذ قرار الجمعية العامة اعتبار عام 2001 سنة للحوار بين الحضارات إلى عامنا هذا، والذي دعته «السنة العالمية للتقارب بين الثقافات»، تتعاقب الجهود تراكماً لا تكراراً لأجل مضاعفة فرص الحوار والإفادة منها وتعزيز تأثيرها». ولفت الى أن لبنان «لم يغب عن تلك الجهود وسعى للإسهام فيها مستلهماً خبرته التاريخية الخاصة وتجربته المجتمعية والسياسية، والتي كثيراً ما نُعتت بالصيغة الفريدة، وكانت له مواقف واضحة لجهة تحديد مقاصد الحوار وقيمه وطرقه فضلاً عن شروط صدقيته وفاعليته، لا سيما في الكلمات التي ألقيت باسمه في غير مناسبة، ومنها جلسة الجمعية العامة الخاصة بالحوار عام 2007، وبوجه أخص كلمة رئيس الجمهورية أمام الجمعية العامة عام 2008 في الجلسة التي عقدتها تجاوباً مع دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وتأييداً لمبادرته الحوارية. ويشهد لبنان، في مواقفه وجهوده، لكل ما يشده إلى المنظمة الدولية، التي تخصّه دائماً باهتمامها وتحرص على حريته وسيادته واستقراره. ويشهد أيضاً لاحترامه الشرعية الدولية وقراراتها، فضلاً عن اهتمامه بإظهار الخصوبة التي يعد بها لقاء الأديان والثقافات». ولفت الحريري الى «الصعاب التي امتحنت بلدنا وشعبنا والتي لم تنل من إرادة العيش معاً في وطن واحد، يغتني بتنوعه وانفتاحه، وبرسوخه في الانتماء العربي وتفاعله مع ثقافات العالم، وبالشراكة الإسلامية المسيحية في صنع المصير الوطني الواحد». وقال: «يبدأ الحوار من الاعتراف بالهويات والخصوصيات وبالوقت نفسه تفادي سلوك التعبير عنها طريق العداء للآخر وصولاً إلى رسم الحدود الدامية معه، ومن احترام التعددية الدينية والتنوع الثقافي». ودعا الى محاذرة «النظرة إلى خلافاتنا المحلية بوصفها مجرد انعكاس لخلافات إقليمية أم كونية تحوّل بلدنا إلى أرض مواجهة، عوض أن يكون وطناً لجميع أبنائه يعالج مشكلاته الداخلية ويحافظ على وحدته ويرعى تنوعه بآنٍ معاً. وأن حوار الحياة عندنا، أو صون العيش المشترك، في الثقافة والاجتماع والسياسة، سبيلنا إلى الحفاظ على وحدتنا والاغتناء بتنوعنا. وهذا ما نتوخاه في تشديدنا على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، التزاماً بما جاء في اتفاق الطائف. وهو ما يزيد من قدرة لبنان على الإسهام في الحوار بين الثقافات والأديان على الصعيد العالمي، بوصفه فسحة لقاء وتبادل وتفاعل لا ساحة صراع». وقال الحريري: «لعلّ حوار الحياة، الملازم لحوار الأفكار، يعلّمنا أن البحث عن الاتفاق لا يصل دائماً إلى اتفاق. غير أن أهميته، بل ضرورته، تكمن في قبول الاختلاف ووضع الفوارق في موضعها المناسب، من دون تخفيف مصطنع لها أو مبالغة في إبرازها. فالحوار لا يتجاهل التناقضات ولا يلغي المنافسة الديموقراطية، بل يدير التنوع حتى لا يكون مسبباً للتنابذ أو الفرقة. وليس الحوار الحق عملية تفاوضية محكومة أو مقيدة بعلاقات القوى، بل مساهمة في تغييرها، وإن نسبياً، لمصلحة التكافؤ بين المشاركين فيه. لذلك يلتقي السلوك الحواري على الصعيد العالمي، مع العمل الديبلوماسي الذي يستند إلى القانون الدولي بعيداً من منطق القوة والإملاء والمعايير المزدوجة. غير أن التأكيد المبدئي هذا لا يبدد الالتباسات التي تشوب الواقع. فالقول بالحوار بين الأمم ونشر ثقافة السلام يثير عند الكثيرين شكوكاً حول صدقيته وجدواه وخشيتهم من استخدامه تورية أو ذريعة لأغراض سياسية خارجة عن مبرر وجوده الأصلي. والحقيقة أن الحوار لا يستقيم إذا ما احتجبت غاياته الفعلية وراء أهدافه المعلنة. وهو لا يؤتي ثماراً ما لم يرتض أطرافه أن تقوم بينهم علاقات متكافئة. ثم إن استمرار السيطرة والقهر والتعسف، وعدم وضعه تحت السؤال الأخلاقي، يضع الحوار نفسه تحت السؤال». وقال الحريري: «يصح ذلك بشكل جليّ في بلدنا الذي عانى قرابة ربع قرن من الاحتلال الإسرائيلي، والحروب الإسرائيلية المتكررة عليه، فدفع آلاف الأرواح من خيرة أبنائه وبناته، وعانى استقراره واقتصاده وما زال من التهديدات الإسرائيلية بتكرار المجزرة بحقهم، فيما الاحتلال لا يزال يجثم على جزء من أراضينا. فكيف يمكن للحوار أن يبني الثقة ويؤسس لعلاقات جديدة، بظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية والانتهاك المتمادي لحقوق الفلسطينيين الوطنية والإنسانية، وعلى رأسها حقهم بالعودة إلى دولة مستقلة عاصمتها القدس؟». وشدد على أن «لا بد لروح العدالة واحترام القانون الدولي والشرعية الدولية من أن تسود لكي يقوم حوار حقيقي نتطلع إليه، لا سيما أن القدس، مدينة السلام ولقاء المؤمنين بأديان التوحيد، لا تحقق دعوتها التاريخية ما لم يُرفع الظلم عن أبنائها وما لم يوضع حد لتغيير هويتها البشرية والعمرانية وللاحتلال. ولا يخفى عليكم أن صنع السلام الحقيقي والعادل في فلسطين، وهو ما تسعى إليه مبادرة السلام العربية، يؤثر بصورة بالغة على العلاقات ما بين الثقافات والأديان. أكثر من ذلك، انها ضرورة لإنجاح الحوار نهجاً لمعالجة المشكلات ولتحقيق تقارب فعلي ما بين العالم الغربي والعالمين العربي والإسلامي». وإذ أعلن افتتاح المناقشة حول موضوع الجلسة، شدد على «العودة إلى تجديد التزام بلدي لبنان بالقيم الأخلاقية الكونية المتضمنة في ميثاق الأممالمتحدة، والتي تحرك برامجها وديبلوماسيتها، لا سيما في الوساطة وفض النزاعات. وهي القيم التي ينطلق منها الحوار بين الثقافات ويعززها». «جامعة جورج تاون» وكان الحريري لبى دعوة «جامعة جورج تاون» لافتتاح سلسلة المحاضرات السنوية في ذكرى الرئيس السابق للحكومة اللبنانية رفيق الحريري، وذلك في المبنى الذي جرى قبل ثمانية أشهر تدشينه ويحمل اسم «مبنى رفيق بهاء الدين الحريري» في حرم كلية ماكدونو للأعمال في الجامعة. واختلطت خلال هذه المناسبة مشاعر رئيس الحكومة بين السعادة لعودته الى الجامعة التي تخرج فيها، والحزن على والده الرئيس الراحل الذي كان محور تقدير المجتمعين في المبنى الذي حمل اسمه تخليداً لذكراه. وحضر محاضرة الافتتاح اعضاء الوفد اللبناني المرافق للحريري ورئيس الجامعة جون ديغويا وعميد كلية ادارة الاعمال جورج دالي وأسقف كانتربيري روان وليامز وأعضاء في الكونغرس والادارة الاميركية وسفراء عرب وأجانب وحشد من الخريجين والطلاب. واستهل الحفل بعرض فيلم وثائقي عن حياة الرئيس رفيق الحريري تحدث فيه كل من ديغويا ودالي ورئيس «مؤسسة الحريري» في واشنطن رفيق البزري، وتحدث ديغويا عن رفيق الحريري «الذي كان بطلاً في مجالات التعليم وخلق الفرص، ورجلاً محترماً جداً وأننا نفتقد في شكل عميق غيابه كفرد من أفراد اسرة جامعة جورج تاون». ورحب بالرئيس سعد الحريري «الذي وصل الى هنا في اول زيارة رسمية له لواشنطن كقائد للبنان»، ووصف «هذه المناسبة بالخالدة». وقال: «في الشهر الماضي، حصل هذا المبنى على جائزة بناء فضة (القيادة في الطاقة والتصميم البيئي) وهي شهادة تمنح من مجلس البناء الأخضر- الأميركي، بفضل تصميمها المبتكر، واحترامها لمعايير توفير الطاقة والمياه والمناظر الطبيعية واستخدامها المواد الصالحة لإعادة الصنيع من جانب الشركات المحلية. لكن ما يجعل هذا المبنى حقاً خاصاً هو الروح التي يمثلها. الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الذين يعتبرون هذا المبنى بمثابة وطنهم وفرصة فريدة لبناء جسور التفاهم بين الأفراد والأمم والعمل من أجل تنمية جماعية للعائلة البشرية، هذه هي الروح التي عاش من اجلها رفيق الحريري. لذلك نجتمع هنا، تكريماً لفرد استثنائي ولأفراد عائلته الذين قدموا الكثير للجامعة والمجتمع العالمي». واشار الى منح الرئيس سعد الحريري «هدية لجامعتنا تخليداً لذكرى والده، وأنشأ أيضاً صندوق المنح الدراسية الجامعية لطلبة الدراسات العليا المتفوقين غير القادرين على تحمل نفقات التعليم». وقدم رئيس الحكومة الذي «هو خريج هذه الجامعة مع شهادة بكالوريوس في إدارة الأعمال الدولية في عام 1992». وقال: «على يميني شجرة ارز وهي رمز للبنان في العطاء والخدمة وننوي غرسها في الحرم الجامعي لدينا، وسيكون ذلك بمثابة تقدير حي لروح رفيق الحريري، ورمزاً متنامياً للصداقة المستمرة والعميقة بين طلاب هذا الحرم والشعب اللبناني». واستعاد الحريري في كلمته «السنوات التي امضيتها هنا في جورج تاون»، قائلاً: «صدقوني إن الجلوس حيث انتم أسهل بكثير من الوقوف هنا. وقال: «صدقوني، الأمور لن تسير أبداً كما هو مقرر لها. قبل ثمانية عشر عاماً، تخرجت في جامعة جورج تاون مع تصور واضح للأمور التي أردت القيام بها. الدخول إلى عالم الأعمال وتأسيس عائلة وتخصيص كل الوقت الممكن لزوجتي وأولادي، واختيار حياة هادئة بعيداً عن المتاعب والسياسة. والنتيجة أنني الآن رئيس وزراء بلادي، ذهب الجزء المتعلق بعدم الاقتراب من عالم السياسة. كما أنني لا أرى عائلتي سوى مرة واحدة كل شهرين إذا كنت محظوظاً، إذ عليهم العيش في بلد آخر لأسباب أمنية. ويصدف أن وطني يقع في أكثر المناطق اضطراباً: منطقة الشرق الأوسط». وتحدث الحريري عن المصاعب التي مر بها لبنان «وفَقَد قادة رائعين لكنه استطاع الاستمرار. وعانى العديد من الحروب ولكنه نجا منها».وأكد ان «ما يجعل لبنان فريداً إلى هذا الحد هو الشعب اللبناني». ورأى ان «مسألة الشرق الأوسط ليست مسألة لمنطقتنا فقط. بل للعالم بأسره. إن عدم قدرة العالم على التوصل إلى حل عادل يضع حداً لما سيصبح قريباً قرناً من المعاناة والمآسي لشعب فلسطين، ليس مجرد إخفاق أخلاقي. بات قضية حيوية بالنسبة الى الجميع». قضية فلسطين واعتبر الحريري «ان الحل معروف، ومقبول من كل أطراف النزاع تقريباً: إعطاء الفلسطينيين حق العودة إلى دولة خاصة بهم عاصمتها القدس». وتحدث عن مؤتمر مدريد ومبادرة السلام العربية، وقال ان الجواب على المبادرة «كان المزيد من الحروب والمآسي والمعاناة. قد يقول بعضكم إن هذه الأمور تجري في مكان بعيد جداً، لذا فلتتعامل شعوب المنطقة مع هذه المسألة. صحيح أن الحروب والمآسي والمعاناة تقع في شكل رئيس على الفلسطينيين واللبنانيين، لكن الوقت الطويل والذي لا يمكن إيقافه يقع على عاتقنا جميعاً. وهذا الوقت، هو الوقت الذي يتغذى منه التطرف والتعصب والإرهاب، يتغذى من الغضب والإحباط والألم، ومن عدم قدرة غالبية العرب والمسلمين المعتدلين والذين يسعون الى السلام من تحقيق أي شيء من خلال تقديم عروض ومبادرات السلام. وتغذى الى درجة انتشاره خارج المنطقة ليصبح وباء طال العالم». وقال الحريري: «احتراماً لضميري ولبلدي ومنطقتي ولهذا المكان، عليّ أن أقول الحقيقة: إذا مرّ المزيد من الوقت من دون التوصل إلى حل للفلسطينيين وإقامة سلام في منطقتنا والأمن في العالم، فإن الدول العربية المعتدلة والمسلمة قد يتم تجاوزها. وكما تعلمت خلال وجودي هنا في جورج تاون أن الوقت عنصر أساسي في حل المشكلات، فإن موقعي السياسي اليوم يسمح لي بأن أقول لكم بكل ثقة ان الوقت ينفد منا جميعاً لمواجهة الخطر العالمي الذي يواجهنا بسبب تزايد التطرف والإرهاب. الجواب ليس عسكرياً. وليس عبر تدابير أمنية. إنه بكل بساطة عبر إنهاء اليأس. والآن هو وقت العمل». وكان الحريري التقى كلاً من رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس السيناتور جون كيري في مبنى الكابيتول وعقد معه لقاء ثنائياً تبعه اجتماع موسع حضره السفير شديد والمستشاران محمد شطح وآمال مدللي وعدد من اعضاء لجنة العلاقات الخارجية، ثم التقى في مقر إقامته السفراء العرب المعتمدين في واشنطن ورئيس اللجنة الفرعية في المجلس النيابي لشؤون الشرق الاوسط وغرب آسيا غاري اكرمان في حضور شديد ومستشارين. والتقى الوزيرة السابقة للخارجية الاميركية مادلين اولبرايت.