قضية تزويج القاصرات تُعد من أكثر القضايا الشائكة التي احتدم حولها الكثير من الجدل في المجتمع السعودي على مدى السنوات الثلاث الماضية، إذ اقتحمت هذه القضية وبما تحمله من أسى ومعاناة الميادين والأصعدة كافة سواء القضائية أو الإعلامية أو الشرعية أو الحقوقية أو النفسية، واستمع الجميع طيلة هذه المدة إلى جميع وجهات نظر الممانعين لتقنين زواج الصغيرات والداعين إلى إباحته ماضياً وحاضراً، والتي يؤيدها ويساندها عدد من المشايخ والعلماء وطلبة العلم، وذلك عبر التسلح بسلاح الفتوى والتجريم فحسب لدعاوى التقنين، مع صدهم وإعراضهم في الوقت ذاته عن كل المصالح والمبررات الصحية والنفسية الخطرة المترتبة على مثل هذه الزيجات، التي قد تصل في أسوأ أحوالها إلى إزهاق أرواح وأنفس بريئة، وذلك كما حصل للطفلة اليمنية «إلهام»، التي فارقت الحياة في حادثة اهتز لها الضمير الإنساني والبشري، وقد جمع هذا الفريق جل ما لديهم في كتاب ضخم صدر أخيراً بعنوان «حكم تقنين تزويج الفتيات وتحديد سن الزواج» من تأليف الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري، وقد أشرف على الكتاب الشيخ عبدالرحمن البراك. في المقابل استمعنا وقرأنا لوجهة نظر الداعين إلى أهمية المسارعة والمبادرة بمنع «تزويج القاصرات»، وضرورة تحديد سن أدنى للزواج، ومعاقبة كل من يخالف تلك الأنظمة ولياً كان أم عاقداً، ويدعم هذه الرؤية عدد من الجهات الرسمية، كالجهات القضائية المتمثلة في وزارة العدل وهيئة حقوق الإنسان والصحة والكثير من الكتّاب والمثقفين والنفسيين والمهتمين في مجال حقوق المرأة، وحتى لا أبخسهم حقهم أقول وكذلك بعض الشرعيين. ولقد أبان وأوضح كل طرف حجته وأدلته ولم يعد ثمة جديد يمكن إضافته هذه الآونة، ولكن المتتبع في الساحة يلحظ في الآونة الأخيرة تحركاً من تيار الممانعين لتقنين زواج القاصرات، ليس الهدف منه فحسب القضية ذاتها بقدر ما يهدفون إلى تحقيق أهداف ومكتسبات أكبر من مجرد التحريم لسن القانون المتعلق بتحديد السن الأدنى للزواج، التي من أهمها محاولة إثبات استمرار الوجود والتأثير في الساحة، وذلك من خلال إصدار الكثير من الفتاوى المعارضة للتوجه الإصلاحي العام للدولة تجاه عدد من القضايا المتعلقة بالمرأة خصوصاً. ومن ذلك قضية منع زواج القاصرات. لقد صرح وزير العدل السعودي الشيخ الدكتور محمد العيسى في أكثر من مناسبة وملتقى بأن الوزارة بصدد إعداد تشريع لتقنين زواج القاصرات، وأرجع في حوار له إلى أن مثل ذلك التنظيم إنما هو لأمر مباح ومن حق ولي الأمر تقييد المباحات، وضرب مثالاً على ذلك بتقييد الزواج من غير السعوديات إلا بموافقة من الجهات الرسمية، ولكن هذا التقييد والتأصيل ينازع الممانعون فيه ولي الأمر، إذ استهل مؤلف الكتاب المذكور آنفاً أولى صفحات كتابه ببعض النقولات التي تشير إلى أن الحاكم ليس من حقه منع الناس أو تقييدهم من شيء أباحه الله، ولقد أعلن منذ اقل سنة أحد ابرز العلماء الممانعين لتقنين زواج القاصرات في بيان أصدره رفضه الشديد للتوجه الذي تسعى إليه وزارة العدل في هذه القضية، واصفاً «منع تزويج الصغار وتحديد سن النكاح بأنه من تحريم الحلال، لذلك فلا حرمة لهذا القانون وتجوز مخالفته، وان كل قانون يضاد حكم الشريعة ومقصودها فهو من الحكم بغير ما أنزل الله»، ولم يقف الأمر عند هذا الحدث فهناك الكثير من الفتاوى التي تصدر من حين لآخر التي تبطل وتجرم تحديد سن أدنى للزواج وتشرع الزواج بالصغيرات، بل كلما ظهرت على الساحة دعوات من الجهات الرسمية أو مناشدات من الجهات أو الشخصيات الحقوقية لحل وحسم تلك المشكلة رأيت في المقابل تحركاً لعرقلة تلك الدعوات والمناشدات. لذلك تجدهم يحرصون على أن تبقى القضية في نطاق الحكم الشرعي تحديداً ومن دون تدخل من المختصين في الجهات الحقوقية أو الصحية أو النفسية وغيرها، خصوصاً أن الموقف الشرعي من الجهات الرسمية للإفتاء لم يحسم بعد، وهو ما قد يفسرونه بالتأييد الضمني لموقفهم الشرعي تجاه هذه القضية، لذلك أصبح من الضروري أن تبادر الجهات الرسمية للإفتاء بحسم الحكم الشرعي في تحديد السن الأدنى للزواج وفقاً لما تقتضيه المصلحة الشرعية العامة، وهو ما سيكون له أثر ودور كبيران في إيقاف هذه المعاناة والمسارعة بتطبيق الأنظمة والتشريعات المختصة بمنع زواج القاصرات. كاتب سعودي. [email protected]