علاقة إيران ب«القاعدة» تراوح بين مكانين «تصادم قوى وتزاوج مصالح»، لكنها اليوم دخلت منعطف الدم في ظل مشاركة «جبهة النصرة» في القتال الدائر في سورية، وبخاصة بعد إعلان قائدها مبايعة تنظيم «القاعدة» المركزي. وسط حالة من الغموض واللغط، أثارت مشاركة إيران في تسليم الناطق الرسمي باسم تنظيم «القاعدة» المركزي، سليمان أبو غيث «الكويتي الجنسية» إلى أجهزة الأمن الأميركية (أف بي آي) العام الماضي، العديد من الدلالات والتساؤلات، لعل أبرزها حملها إشارة واضحة إلى وجود علاقة ضمنية مع إيران، خصوصاً أنه تجول في تركيا بجواز سفر إيراني، تحت اسم «مصلح فليحان». لا توجد معلومات مؤكدة حول الطبيعة الشائكة والغامضة لعلاقة تنظيم «القاعدة» بإيران، فهي في غالب الظن علاقة تلتقي فيها المصالح وتغلب السياسي والأمني على الديني، وتختلف الأيديولوجيا والأهداف الاستراتيجية، بمعنى أن هناك تلاقياً في الأهداف التكتيكية – الأمنية والسياسية - قريبة المدى واختلاف في الاستراتيجيات بعيدة المدى، ولغاية هذه اللحظة لا يوجد إعلان رسمي مباشر من قبل الإيرانيين والتنظيم حول وجود علاقة تعاون في ما بينهما. إلا أن هناك دلالات ومؤشرات على وجود هذه العلاقة الضمنية، فتنظيم «القاعدة» المركزي في كل بياناته كان يتجنب مهاجمة أو انتقاد إيران، ولم يثبت للآن قيامه بأية أعمال عسكرية تستهدف المصالح الإيرانية في الداخل والخارج، وموقفه من قضية البلوش (بلوشستان شرق إيران) وإعدام أحمد ريغي ما زال غامضاً وغير واضح، بل إنه لم يعلن أي موقف تجاه أي قضية داخلية في إيران. تبقى العلاقة الضمنية بين طهران و»القاعدة» هشة لأنها غير مبنية على أساس متين، ف»القاعدة» يمثل الجانب الأكثر تشدداً من الناحية العقدية والأيديولوجية في الجانب السني، وإيران تمثل الجانب الأكثر تشدداً أيضاً في المشروع الشيعي الصفوي، الذي لا يلتقي مع المشروع النهضوي للأمة العربية والإسلامية، وأثبت سلوكها السياسي انحيازها لمشروع طائفي بامتياز في المنطقة من خلال تحالفها مع النظام السوري، وضرب التغني بمشروع المقاومة والممانعة عرض الحائط، على اعتبار أن حماية النظام الأسدي الطائفي هو بمثابة حماية لمشروع المقاومة والممانعة في المنطقة. وعلى رغم الاختلاف الأيديولوجي العميق بين التنظيم وإيران؛ إلا أن هناك مؤشرات ودلالات قوية على التقاء في المصالح من الناحية السياسية والأمنية في العديد من الجوانب بين الطرفين. تعود العلاقة بين «القاعدة» وطهران إلى جملة من المؤشرات والدلالات القوية التي تؤكد وجود علاقة «ضمنية» بينهما، وهذا ما كشفته عملية اعتقال القيادي البارز في تنظيم «القاعدة» المركزي. وكان سليمان أبو غيث الناطق الرسمي باسم التنظيم إبان هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، لكنه اختفى في أعقاب بدء العمليات العسكرية للتحالف الدولي في أفغانستان. وتجول بجواز سفر إيراني، بتنسيق وعلم السلطات الرسمية الإيرانية. وما ليس مستبعداً هو أن تكون السلطات الإيرانية ذاتها هي من قامت بإبلاغ أجهزة الأمن التركية عن شخصية «فليحان» الإيراني. خلافات مع قيادة التنظيم أثناء وجود «أبو غيث» في تركيا، عبر لمن التقاهم في إسطنبول عن حالة من عدم الرضى وخلافات بينه وبين قيادة التنظيم بعد مقتل بن لادن. ولم تكشف تلك المصادر التي التقته عن الأسباب الكامنة وراء هذه الخلافات، وأبدى رغبته في العودة لبلاده الكويت. ونقل أحد شهود العيان من أنصار السلفية الجهادية الذين اعتقلوا في طهران - وكان ضمن المتطوعين العرب الذين انضموا لصفوف الحركات الجهادية في أفغانستان، واعتقل مع مجموعة كبيرة من هؤلاء المتطوعين في إيران - بأن سعد بن أسامة بن لادن وبعض أشقائه وأخواته، بخاصة زوجة سليمان أبو غيث فاطمة، وسيف العدل (محمد مكي) مسؤول الأمن والعمليات في التنظيم، وشقيق أبو محمد المقدسي، صلاح برقاوي، وكذلك «أبو القسام» خالد العاروري وهو أحد المقربين للزرقاوي ومن قادة تنظيمه، كانوا من بين الموقوفين لدى أجهزة الأمن الإيرانية ولم يكشف عن أسماء البقية الذين عزلوا عن العناصر العادية ومن قيادات الصف الثاني، وبأن تلك القيادات وعائلاتهم وضعت في «فلل» تحت حراسة أمنية مشددة في إحدى القواعد العسكرية القريبة من طهران، بحسب شاهد العيان. ومن المؤشرات الضمنية وغير المباشرة لوجود علاقة بين طهران و«القاعدة»، اعتراف التنظيم أن الذين قاموا بتنفيذ هجمات الحادي عشر من أيلول مروا من إيران إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. بل إن معظم الشباب الأردنيين الذين ينتمون للتيار السلفي الجهادي غادروا للالتحاق بأبو مصعب و»القاعدة» مروا أيضاً من خلال إيران وحصلوا على تأشيرة المرور الرسمية من قنصلية إيران في إسطنبول، كما استخدمت الأراضي الإيرانية كمعبر لمعظم أفراد وقيادات «القاعدة» خلال تنقلهم من أفغانستان إلى العراق وبالعكس. من الناحية العسكرية شكلت المعدات والذخائر والأسلحة الإيرانية المستخدمة من قبل «القاعدة» في العراق علامة فارقة وإضافة نوعية لقدراتها العسكرية خلال مواجهتها للاحتلال الأميركي للعراق، وبخاصة العبوات والألغام الجانبية. وتوحي ممارسات الجمهورية الإيرانية بأنها دولة مذهبية تتحرك بدافع ديني بحت، إلا أن الواقع يدلل على أنها أيضاً دولة براغماتية تسعى لتحقيق مصالح الدولة الوطنية مهما كانت تتعارض مع «فكرها الشيعي» بل وتتصارع معه؛ ما يسمح لها بالسكوت عن تنظيم «القاعدة» تارة، وغض الطرف عن بعض تجاوزاته تارة أخرى، بل ومساعدته في بعض الأحيان، طالما أنه لا يشتبك معها في شكل مباشر، بل أن صراعها مع الغرب عموماً والولاياتالمتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية، على وجه الخصوص، يخدم أهدافها ويحقق رغباتها. هذا يعني أن «طهران» توظف «القاعدة» بطريقة غير مباشرة في زعزعة أمن دول الخليج والسعودية، ومثال على هذا التوظيف إعلان بدء العمليات العسكرية داخل الأراضي السعودية والاشتباك مع الدولة السعودية من خلال حملة «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» على لسان أميرها عبد العزيز المقرن الذي قتل على يد أجهزة الأمن السعودية، حيث أكدت بعض التحقيقات عن صلات ل «طهران» وذراعه العسكري «حزب الله» في تفجيرات الخبر. هنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي: لماذا قامت السلطات الإيرانية عقب هجمات الحادي عشر من أيلول وبدء العمليات العسكرية في أفغانستان بتسليم العديد من المنتمين إلى «المجاهدين» – أنصار السلفية الجهادية – إلى بلدانهم، واحتفظت بقيادات الصف الأول الذين خرجوا من أفغانستان. طهران استخدمت الشخصيات القيادية في «القاعدة»، بهدف ممارسة الضغط على التنظيم المركزي وفروعه المنتشرة، لأن المعتقلين أو الذين وضعوا تحت الإقامة الجبرية لديها يحظون بمكانة كبيرة لديه ومن جنسيات مختلفة. تنسيق مع «القاعدة» من الدلالات القوية أيضاً التي تؤكد اهتمام السلطات الإيرانية بالحفاظ على علاقتها مع التنظيم ووجود تلك العلاقة، بأن أجهزة الأمن الإيرانية «استطلاعات» استحدثت قسماً لتنظيم وتنسيق العلاقة معه، بحسب مقربين من قيادات «القاعدة». حادثة أخرى كشفت عن خيوط لوجود علاقة من نوع ما بين طهران و«القاعدة»، إثر إفشال مخطط لاستهداف قطار ركاب في مدينة تورونتو في عملية اتهمت فيها السلطات الكندية اثنين من المشتبه بهم بتلقي دعم من «عناصر القاعدة في إيران»؛ الأمر الذي حمل معه الكثير من التكهنات أيضاً في حالة ربما هي الأولى التي تُتهم فيها عناصر «قاعدية» مقرها إيران، بتوفير المساعدة على رسم مخطط لاستهداف الغرب. وقد تضاربت الأنباء حول عملية اعتقال سليمان أبو غيث، حيث نقل أحد المواقع الإلكترونية بأن السلطات التركية قامت بتسليمه إلى الأجهزة الأمنية الأميركية مباشرة في إسطنبول ومن دون الإعلان عن ذلك، فيما تداولت بعض وسائل الإعلام أن اعتقاله تم بالتعاون مع الاستخبارات الأردنية التي نفت على لسان الناطق الرسمي باسم الحكومة ضلوعها في ذلك، وأن الاعتقال تم في منطقة الترانزيت في مطار عمان أثناء توجهه إلى الكويت، وهو الآن في الولاياتالمتحدة الأميركية حيث مثل أمام القضاء فيها. وذكر مصدر موثوق في التيار السلفي الجهادي، بأنه جرى لقاء جمع أحد النشطاء مع سفير إيراني سابق، وسلمه رسالة شفوية تتضمن طلب إخلاء سبيل بعض السلفيين الجهاديين الموجودين في إيران والمعتقلين في سورية ومن بينهم عبد الرحمن خريسات شقيق القيادي البارز رائد خريسات الذي قتل في غارة أميركية استهدفت معسكرات «أنصار الإسلام» في شمال العراق عام 2003، والذي أجاب بأنه لا يعلم بوجود هؤلاء الأشخاص في إيران وسيبذل الجهود في سبيل إخلاء المعتقلين في سورية. دعم لوجستي غير مباشر لا بد من توضيح مسألة في غاية الأهمية وهي أن موقف تنظيم «القاعدة» المركزي من طهران والعلاقة بها؛ يختلف جذرياً عن موقف فروع التنظيم الأخرى المنتشرة في العالم، لأنه استفاد من الدعم اللوجستي غير المباشر ووفرت له إيران ملاذاً وممراً آمنين بعد إعلان الولاياتالمتحدة الأميركية إستراتيجية الحرب على الإرهاب لملاحقة عناصر وقيادات التنظيم. ولا بد من الاشارة إلى الرسالة التي وجهها زعيم تنظيم القاعدة (سابقاً) أسامة بن لادن ونائبه (الزعيم الحالي للتنظيم) أيمن الظواهري لأبي مصعب الزرقاوي حيث انتقداه على سلوكه في التعامل مع الشيعة والغلو في قتل عوام الشيعة، وخصص الظواهري في رسالته فقرة خاصة بالموقف من الشيعة، وفيها يبدو واضحاً ميله إلى تأييد الزرقاوي في الموقف منهم من ناحية العقيدة، وحتى من ناحية مواقفهم السياسية التقليدية، لكن ملاحظاته انصبت على التعامل معهم، مثل قتالهم والهجوم عليهم، وتحديداً على مساجدهم، وهو أمر رأى الظواهري أن نفور المسلمين منه سيظل قائماً. بعد ذلك عرج الظواهري - في رسالته المشهورة للزرقاوي - على إيران مسجلاً موقفاً سياسياً لافتاً للانتباه، وذلك بعد التذكير بوجود حوالى مئة من عناصر «القاعدة» معتقلين لديها، من بينهم سيف العدل وسعد نجل أسامة بن لادن، ثم طرح التساؤل التالي: «هل تناسى الإخوة أن كلاً منا والإيرانيين في حاجة إلى أن يكف كل منا أذاه عن الآخر في هذا الوقت الذي يستهدفنا فيه الأميركان»؟. بينما وجه شيخ الزرقاوي؛ أبو محمد المقدسي انتقادات له في الغلو باستهداف عوام الشيعة في رسالته التي حملت عنوان «مناصرة ومناصحة: آمال وآلام»، بقوله: «ولذلك فحذار أيضاً من تشتيت دائرة الصراع والخروج بها عن المحتل وأذنابه الموالين له... وحذار من توسيع تلك الدائرة أيضاً فيما لا طائل من ورائه وتضييع جهد المجاهدين بذلك... أو باستهداف غير المقاتلين من أبناء الشعب ولو كانوا كفاراً أو من النصارى فضلاً عن التورط في استهداف كنائسهم وأماكن عبادتهم ونحوها... أو الانجرار وراء استهداف عموم الشيعة وحرف المعركة عن المحتل وأذنابه وصرفها إلى مساجد الشيعة ونحوهم مهما كان تاريخهم وعداوتهم لأهل السنة وأذاهم لهم، فلا يجوز أن يجعلوا جميعاً في كفة واحدة؛ عوامهم مع خواصهم المحاربين... وعلى كل حال فإن إعلان الحرب على هذه الطوائف المحسوبة على الإسلام والمسلمين في ظل احتلال صليبي مجرم لا يفرق بين سني وشيعي ليس من السياسة الشرعية في شيء». ويُعتقد أن العلاقة بين «القاعدة» وطهران دخلت منعطفاً خطيراً مع بدء الثورة الشعبية في سورية، ببروز تنظيم «جبهة النصرة» الذي يعد أحد فروع التنظيم المركزي بعد مبايعته له مؤخراً، وهذا ما أكدته تصريحات زعيم القاعدة الأخيرة الذي تحدث في رسالة صوتية وجهها لأنصاره هذا الشهر وكانت لديه بعض العبارات القاسية لإيران، وقال إن وجهها الحقيقي انكشف من خلال دعمها للرئيس السوري بشار الأسد ضد المقاتلين الموالين لتنظيمه. لم يصرح المسؤولون في تنظيم القاعدة المركزي أو السلطات الإيرانية في شكل علني عن أسباب الإفراج عن قيادات «القاعدة» الذين أفرج عنهم بعد أن مكثوا داخل المعتقلات الإيرانية سواء تحت الإقامة الجبرية أو غيرها حوالى العشر سنوات، حيث تم اعتقال غالبيتهم عقب بدء العمليات العسكرية على أفغانستان عام 2001، وتم الإفراج عنهم في الربع الأول من عام 2012. وتناقلت بعض المواقع الإلكترونية التي تناصر التنظيم خبراً مفاده أن عناصر «القاعدة» قاموا بعملية أمنية وعسكرية نوعية استهدفت بعض كبار المسؤولين الأمنيين والعسكريين الإيرانيين في مناطق حيوية في باكستان (وزيرستان أو بيشاور)، وقامت طهران بالإفراج الفوري عن جميع المعتقلين لديها من قيادات وعناصر التنظيم وإخلاء سبيلهم في مناطق آمنة، حيث وصلت هذه القيادات وبدأت بممارسة نشاطاتها العسكرية والقيادية والإعلامية، ونشرت بعض الصور لهم. على ما يبدو فإن علاقة إيران ب«القاعدة» تراوح بين مكانين: «تصادم قوى وتزاوج مصالح». لكنها اليوم دخلت منعطف الدم في ظل مشاركة «جبهة النصرة» في القتال الدائر في سورية، وبخاصة بعد إعلان قائدها مبايعة تنظيم «القاعدة» المركزي.