الفرق بين الأدب وبين الصحافة، في التحقيقات الصحافية، طفيف. وأزعم أن وظيفة التحقيق («الريبورتاج») هي حمل القارئ على دخول عالم جديد من طريق الكلمات، وكيفما تناول الكاتب موضوعه. و «طريق الكلمات» أدبية. ولم يكن كتّاب التحقيقات ينتبهون الى المسألة. وصحافي تحقيق مثل جاك لندن أو روائي مثل جون شتاينبك لم يريا في استعمال ضمير المتكلم (أنا) قضية أخلاقية. وكلامه بضمير المتكلم لم يدعه الى إبراز نفسه، وتسليط الضوء عليها. فدأبه أو سائقه هو الإعلام، أي إضافة خبر عن حادثة أو واقعة، أو التنبيه الى وجه من وجوه سياق الحادثة، من غير أن يتبوأ صدارة المشهد، على ما يحصل اليوم في بعض الأحوال. ولعل الباعث على تصدر بعض صحافيي التحقيق المشهد هو أزمة المهنة منذ ثمانينات القرن الماضي. فالمهنة كانت عالية المكانة، وكان صحافي التحقيق، مبتدئاً متواضعاً أم مجرباً وذائع الصيت، هو ميزان الصحيفة. فهو السباق الى ملاقاة الحادثة والخبر، وهو واسطة الحادثة الى الصحيفة وتحريرها. والأدوار أو الوظائف الأخرى: كتّاب الأعمدة، الرسامون... كانت تتبلور قياساً على التحقيق وكتابه. وحين كانت الروائية كوليت أو الروائي (البوليسي) سيمينون يسافران أو يخرجان في تحقيق كانا يتصدران الصحيفة ويقطرانها، ويسعهما الكتابة قدر ما يريدان من غير تضييق ولا حساب. وليس كاتب التحقيق اليوم أكبر من مصور عيان، وحين يرجع من سفره وتحقيقه يقتصر دور ما كتب على «الإضاءة». والصحيفة في الأثناء، تولت نقل الخبر ومناقشته ربما والتعليق عليه. و «حصة» كاتب التحقيق هي طمأنة هيئة التحرير، وإضافة أسلوب وصورة. فيتوقع التحرير منه اللون والإحساس. وتقليص حيز مقالاته مرده الى تقلص دوره، وقصر الدور على المساحة هذه. ويدعو هذا كاتب التحقيق الى تعريف دوره المتواضع تعريفاً حاداً وقاطعاً، رداً على الدور الجديد. فيمّم شطر موضوعات وبلدان غير الموضوعات والبلدان المطروقة، ويكتب كتباً ولا يقنع بالمقالات الصحافية. وفي بعض الأحيان يتخلى عن طرح مسألة الأخلاق الصحافية. وهذا شأني، على سبيل المثل. ففي كتبي الثلاثة التي تناولت فيها رواندا ومجازرها، تعمدت إغفال قاعدة الصحافة الذهبية: البحث عن الوقائع والرواح الى الشمال والجنوب، والتحقق من الأخبار بالعودة الى السلطات... واستعضت عن هذا بالقعود على شاطئ المستنقعات، والتحديق طوال 10 أعوام في الأطياف والأخيلة. وفي أوقات أو أحوال أخرى، ينسلخ كاتب التحقيق من التحرير. ويستقل عنه، ويميل الى ذاتية تقوده الى الأدب الروائي، فيثأر من تهوين شأنه، والحط من مكانته، بالإفراط في العمل التشكيلي والجمالي. ويعوض دوره الإعلامي والخبري النافل والثانوي بالمبالغة في التأنق. وقد يقوده تهميشه الى الابتداع والتوليف. فالأدب غدا ملجأ الصحافة، وهو كان بوتقتها وحاضنها. وحين كتبت «سيماء الحرب» (1999)، وموضوعه النزاع في يوغوسلافيا السابقة، أردت قول ما لا يسعني قوله في صحيفة. فالحرب هي يوم من الفعل والحوادث لقاء 9 أيام من الضجر والانتظار. وكان في مستطاع جوزف كيسيل رواية هذه الحال، على خلافنا نحن، كتاب التحقيق اليوم. فإذا قلت للتحرير إن مسرح الحوادث ساكن أو مقفر، أجاب التحرير: لا تكتب في انتظار الحوادث. وفي الأثناء، يراكم الصحافي الملاحظات الجزئية والثانوية الى أن يجمع منها كتاباً. وهو يلجأ الى الأدب تفادياً لمماشاة إنكار الصحافة هويتها. وكاتب التحقيق، على هذا، إنما ينفي نفسه الى بلاد غريبة، شأ، المهاجرين الى الغرب وبلدانه. * مراسل حربي في «ليبراسيون» سابقاً وكاتب ثلاثية في الإبادة الرواندية، عن «لوموند دي ليفر» الفرنسية، 7/5/2010 إعداد وضاح شرارة.