تبدأ القصة التقليدية لمعظم البريطانيين كالآتي: يعيش الطالب (أو الطالبة) في بيت الأسرة حتى مرحلة بدء الدراسة الجامعية، حيث يبدأ حياته «المستقلة» ويعيش في العادة قرب كليته، سواء من خلال استئجار شقة صغيرة لوحده أو بالتشارك مع طلبة آخرين. وبعد التخرّج، يجد الطالب وظيفة ويبدأ العمل في منتصف العشرينات من عمره، ثم يلتقي شريكة حياته في أواخر العشرينات أو مطلع الثلاثينات. يشتريان بيتاً صغيراً ويؤسسان عائلة (أو هكذا تفترض القصة... إذا لم يختلفا مع بعضهما بعضاً بالطبع!). ومع وصولهما إلى سن الخمسين، يُفترض أن يكونا قد سددا معظم أقساط البيت، إن لم يكن كلها، ليصبح ملكهما. قبل سنوات قليلة فقط، كانت القصة تسير على هذا المنوال في بريطانيا، لكنها لم تعد كذلك اليوم. فلقد أصبح امتلاك منزل أو شقة بمثابة حلم صعب التحقق لجيل كامل من الشبان والشابات البريطانيين الذين يجدون أنفسهم اليوم مضطرين لقضاء سنوات عمرهم في منازل أهلهم، أو في شقق مستأجرة، وذلك نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار المنازل التي بات أرخصها ثمناً يبلغ أضعافاً مضاعفة لراتب أي شاب يتخرّج حديثاً في الجامعة. وعلى رغم أن أزمة السكن تنتشر في عموم بريطانيا لا سيما في المدن الكبرى، إلا أنها تبدو أكثر حدة في العاصمة لندن. فقد أظهرت إحصاءات رسمية أن عدد الشقق والمنازل المستأجرة في العاصمة البريطانية تجاوز العام الماضي، للمرة الأولى منذ عقد من الزمن، عدد الشقق والبيوت التي تشرى بقروض مصرفية، في مؤشّر جديد إلى أن جيل الشباب خصوصاً بات يواجه خطر البقاء في شكل دائم خارج سوق التملّك العقاري، نتيجة عجزه عن «تسلّق سلّم» شراء الشقق التي يزيد سعرها سنوياً بطريقة لا يمكن أن تجاريها أي زيادة قد تطرأ على رواتب الموظفين. ووفق الإحصاءات الحكومية، تعيش حالياً في لندن 898 ألف عائلة في منازل وشقق مستأجرة من القطاع الخاص، وهو رقم يبلغ أكثر من ضعف عدد العائلات التي كانت تعيش في الإيجار بين العامين 2003 و2004 (405 آلاف عائلة). أما البيوت التي تشرى بقرض مصرفي فقد انخفض عددها إلى 883 ألفاً، مقارنة بمليون بيت قبل 10 سنوات، أي بتراجع مقداره 17 في المئة، في مؤشّر آخر إلى تراجع قدرة البريطانيين على شراء المنازل واضطرارهم إلى الاكتفاء باستئجارها. ويبلغ معدّل سعر البيت في لندن حالياً 530 ألف جنيه (الجنيه يوازي نحو 1,5 دولار). وبما أن أي طالب أو طالبة لا يمكن أن يتوقع راتباً يفوق 40 ألف جنيه بعد التخرّج في الجامعة، فإن هذا يعني بوضوح أن لا أمل لأي منهما في الحصول على قرض مصرفي لشراء منزل في العاصمة. فالمصارف لا تمنح، عادة، قرضاً منزلياً إذا ما تجاوز ثمن المنزل ثلاثة أضعاف راتب الموظف (أي أن الشاب أو الشابة لا يمكن أن يقترض أكثر من 120 ألف جنيه، بينما معدّل سعر المنزل أكثر من 500 ألف). لذا، فإن لا عجب من أن جيل الشباب البريطاني بات يُعرف ب «جيل المستأجرين»، وفق ما تصفهم وسائل الإعلام البريطانية. ومن بين الذين ينجحون في «اختراق سوق العقارات» من خلال تأمين قرض سكني، فإن 27 في المئة منهم يعتمدون في الواقع على «مصرف أمهم وأبيهم» لتأمين الدفعة الأولى المسبقة من ثمن المنزل أو الشقة، ما يساعد في ضمان الحصول على قرض مصرفي. وفي الواقع، تحاول الحكومة جاهدة إيجاد علاج لهذه المعضلة من خلال تشجيع بناء مساكن جديدة بأسعار مخفّضة وحصرها بفئات الموظفين الذين يعملون براتب محدود، وأيضاً بفئات الشبان والشابات الذين يدخلون سوق العقارات للمرة الأولى. وتقول الحكومة أنها نجحت منذ العام 2010 في تأمين شراء منازل ل 270 ألف عائلة صغيرة. وبما أن أزمة السكن في لندن هي الأكثر حدة بين المناطق البريطانية، فقد تحوّلت إلى محور أساس من محاور الحملة الانتخابية للمرشّحين لمنصب عمدة العاصمة، لا سيما المرشح المحافظ زاك غولدسميث ومنافسه العمالي صادق خان. ويطرح كل منهما وعوداً ببناء آلاف المنازل الجديدة وطرحها في السوق بأسعار ميسّرة. لكنّ منتقدين يقولون أن الاقتراحات المطروحة غير كافية، خصوصاً في ظل التوقعات بارتفاع عدد سكان لندن من 9 ملايين نسمة إلى أكثر من 14 مليوناً خلال سنوات قليلة، ما يعني أن هناك حاجة لبناء مدن جديدة بأكملها لتستوعب التضخّم السكاني المتوقّع. وفضلاً عن المشاريع التي تطرحها الحكومة والأحزاب المختلفة للتعاطي مع أزمة السكن، تطرح جهات مختلفة أفكاراً مستوحاة من تجارب حصلت أو تحصل في بلدان أخرى على أمل تطبيقها في بريطانيا. ومنها استنساخ مشروع تطبّقه هولندا منذ سنتين ويقضي بعرض سكن مجاني على الطلاب، شرط إقامتهم في بيوت المسنين وقضائهم ما لا يقل عن 30 ساعة في الشهر في حوارات اجتماعية معهم. ويسمح ذلك للطلاب بادخار مبلغ لا يستهان به من إيجار مكان السكن، فيما يسمح للمسنين بأن يكون بقربهم شخص يمكن أن يهتم بهم إذا ما احتاجوا إلى شيء وإلى من يتحدّث معهم بدل أن يعيشوا حياة وحدة في منزلهم. ومن الأفكار الأخرى التي بدأ تطبيقها في بريطانيا أيضاً، نموذج كان منتشراً في الدنمارك في ستينات القرن ال20 ويقوم على مبدأ «المشاركة» بين المنازل أو الشقق المتلاصقة بعضها ببعض، بحيث تكون هناك أماكن «مشتركة» لأكثر من عائلة تتوافق في ما بينها على تقاسم أعباء معينة (كالاهتمام بالأطفال للسماح للبالغين بالعمل). ووفق تقرير نشرته صحيفة ال «غارديان»، فإن هذه الظاهرة تنتشر الآن، ولكن ببطء، في بريطانيا وكذلك في إسبانيا واليونان حيث يواجه خريجو الجامعات بطالة (عن العمل) تتراوح بين 40 و60 في المئة. ومن الأفكار الأخرى لمواجهة أزمة السكن بين جيل الشباب البريطاني، الإقامة في مصانع مهجورة على أطراف المدن، وهو أمر يحصل بالفعل حالياً ويجذب خصوصاً من يريد توفير إيجار شقة ويستطيع تحمّل حياة شظف في الوقت ذاته. كما سُجّلت حالات لجوء شبان وشابات إلى استئجار قارب في القنوات المائية في لندن وخارجها. ويمكن شراء قارب والإقامة فيه ب 50 ألف جنيه تقريباً، وهو رقم يمكن أن يتحمّله الخرّيجون الجدد ريثما تكون أوضاعهم المادية قد تحسّنت... على أمل أن يستطيعوا يوماً ما تحقيق حلمهم بشراء منزل وبناء عائلة.