ميكائيل شاب بريطاني في مطلع العشرينات من عمره. أنهى قبل سنتين تخصصه في الرياضة البدنية، لكنه ما زال ينتظر أن يجد عملاً في ناد رياضي في لندن. وكونه ما زال يعيش في منزل والده الإنكليزي وأمه الإسبانية لم يعد مصدراً للاستغراب بين البريطانيين. فعشرات الآلاف مثله من الخريجين الجامعيين، أو طلاب الدراسات العليا، باتوا الآن يفضّلون العيش في منازل ذويهم، بعدما كانت العادة في الماضي أن يسعى الشبان والشابات بمجرد بلوغهم سن ال 18 إلى «نيل استقلالهم» عن أهلهم والانتقال إلى منازل يستأجرها في الغالب عدد من الطلاب أو الأصدقاء ويتقاسمون كلفتها في ما بينهم. وعلى رغم أن ظاهرة عودة الشبان والشابات للإقامة في منازل ذويهم كانت قد بدأت تسجّل في الإحصاءات الرسمية البريطانية منذ نحو ثماني سنوات، فإن نسبة العائدين إلى «أحضان الأهل» لم تسجّل هذا الارتفاع الكبير الذي تعرفه اليوم سوى في السنتين الأخيرتين، في موازاة الانكماش الذي شهده الاقتصاد البريطاني بفعل تداعيات الأزمة المالية العالمية. وشكّلت هذه العودة محوراً لنقاش واسع في المجتمع البريطاني الذي اعتاد منذ ستينات القرن الماضي، على أقل تقدير، ظاهرة أن يسعى الشبان الذين يبلغون 18 سنة وما فوق إلى العيش بعيداً من أهاليهم. ولا تنحصر هذه الظاهرة بالمجتمع البريطاني فحسب، بل هي منتشرة بالطبع في الدول الأوروبية كافة، وإن كانت نسبة مغادري منزل الأهل وهم ما زالوا في عمر مبكر أكبر في دول شمال القارة العجوز عن نسبة المغادرين في جنوبها الذي يتشارك في كثير من عاداته وتقاليده مع بقية الدول المتوسطية، حيث لا يغادر الشبان والشابات في العادة منزل أهلهم سوى بعد الزواج وبدئهم في تكوين عائلة جديدة. وتؤكد أرقام مكتب الاحصاء الوطني في إنكلترا ظاهرة تفضيل عدد متزايد من الشبان والشابات عدم الانتقال في الوقت الحالي إلى مسكن جديد والبقاء مع أهلهم تحت سقف واحد. وأشار إحصاء أُجري العام الماضي إلى أن أكثر الذين يعيشون حالياً مع أهلهم هم من الرجال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 20 و34 سنة إذ وصلت نسبتهم إلى 29 في المئة. أما نسبة النساء اللواتي ما زلن يعشن مع ذويهن من الفئة العمرية نفسها فتصل إلى 18 في المئة. وفي اسكتلندا تحديداً، تفيد الأرقام المتوافرة عن هذه الظاهرة أن عائلة واحدة من بين كل عشر عائلات باتت تضم شخصاً في سن العمل يفضّل عدم مغادرة منزل ذويه. وبحسب هذه الأرقام، يعيش حالياً 204983 شاباً في منازل أهاليهم في اسكتلندا. كما أن معدل العمر الذي يشتري فيه الشاب الاسكتلندي منزله الأول ارتفع حالياً إلى 37 سنة، ما يعكس حقيقة أن مزيداً من الشبان والشابات لا يجدون مفراً من البقاء تحت سقف واحد مع ذويهم. وتشير تحليلات إلى أن تفشي هذه الظاهرة يعود إلى أسباب عدة أهمها عدم قدرة الشبان والشابات على شراء منزل أو حتى استئجار شقة صغيرة. فقد أدى الارتفاع الكبير في أسعار العقارات في بريطانيا إلى حرمان كثيرين من الشبان المتخرجين حديثاً من القدرة على شراء منزل. وتفاقم هذا الوضع حالياً مع عدم قدرة المتخرجين على إيجاد فرص عمل نتيجة الانكماش الاقتصادي، الأمر الذي حرمهم بالتالي من الاستفادة من التراجع الطفيف الذي شهدته السوق العقارية. وتبلغ نسبة العاطلين من العمل حالياً في بريطانيا 7.8 من إجمالي اليد العائلة. وتشمل هذه النسبة واحداً من بين كل خمسة أشخاص تتراوح أعمارهم بين 18 و24، أي ما يصل إلى 630 ألف شخص، وهي أعلى نسبة في هذه الفئة العمرية منذ 1995. وفي هذا الإطار، تقول كلير (24 سنة)، الموظفة في شركة مصرفية، إنها تتلقى راتباً سنوياً قدره 18 ألف جنيه إسترليني، لكنه لا يكفي لشراء منزل ودفع أقساطه. وتوضح أنها تعيش مع أمها في منزلها في غلاسكو وتدفع لها 150 جنيهاً إيجاراً شهرياً للغرفة التي تقطنها. وتشير إلى أنها توفر بذلك مبلغاً كبيراً كانت ستُضطر لدفعه لو استأجرت شقة بمفردها. ومن بين الأسباب الأخرى وراء ظاهرة العودة إلى منزل الأهل الديون الباهظة التي بات يتكبدها الطلاب الجامعيون في بريطانيا. فبعد سنوات طويلة من التعليم الجامعي المجاني، وافقت حكومة حزب العمال على السماح للجامعات بفرض رسوم تُقدّر ببضعة آلاف من الجنيهات على الطلاب الذين يسعون إلى نيل شهادات عليا (تختلف الرسوم من جامعة إلى أخرى، لكنها في الإجمال تكون في حدود خمسة آلاف جنيه للمواطن البريطاني). ولمساعدة الطلاب في تأمين أقساطهم الجامعية، أنشأت الحكومة صندوقاً خاصاً يمكن للطلاب الاستدانة منه لإكمال تعليمهم الجامعي على أن يُسددوا دينهم بعد تخرجهم وبدئهم العمل. ويبلغ معدل الدين الذي يتكبده كل طالب في نهاية مراحل التعليم الجامعي قرابة 22 ألف جنيه إسترليني (تكاليف الدراسة والإقامة). ومع دين بهذا الحجم، وفي ظل عدم وجود سوق عمل تسمح للطلاب المتخرجين ببدء تسديد الأقساط المترتبة عليهم، لم يكن من المستغرب أن يسعى هؤلاء إلى تفادي العيش بمفردهم في منزل خاص سيؤدي إلى غرقهم أكثر في الديون. وعلى رغم التأثيرات السلبية العديدة التي تخلّفها الأزمة الاقتصادية الحالية على المجتمع البريطاني (الضائقة المالية وخسارة الآلاف وظائفهم)، هناك من يرى أنها أدت أيضاً إلى نتيجة إيجابية من خلال نجاحها في إعادة لم شمل العائلات البريطانية من خلال جمع الأبناء والبنات تحت سقف واحد مع آبائهم وأمهاتهم ... رغماً عنهم!