ثمة قضية مستقلة في الشكل عما أسلفنا، لكنها مرتبطة في الجوهر ب «المخطط الكبير»، وهي قرار وزارة التربية القاضي ب «تشكيل لجنة لتخليد فن وأدب منصور الرحباني والعائلة الرحبانية في المناهج التربوية». الناس تعرف بعض تداعيات هذه القضية. لذا، سنذكر بها في شكل مختصر ونحلّل النوايا المبيّتة في عملية التزوير التاريخية هذه، ونكشف ما لم يظهر إلى العلن بعد. في 12 شباط (فبراير) 2009، وبعد حوالى شهر من رحيل منصور الرحباني، صدر قرار وزارة التربية الشهير، وفي مادته الأولى: «تشكيل لجنة لتخليد فن وأدب منصور الرحباني والعائلة الرحبانية في المناهج والأنشطة التربوية». بداية، تتألف هذه اللجنة من ممثلين عن وزارة التربية ووزارة الثقافة والجامعات الخاصة والرسمية، ألخ. ومن أحد أفراد عائلة الرحباني أو أكثر. إذاً، لا وجودٌ حتى لاسم «الأخوين رحباني» (وهو الاسم الفنّي الذي يذيّل الجزء الأكبر من الأعمال موضوع القرار). ولا وجودٌ لممثل عن عائلة عاصي، ولا ذِكرٌ لاسم عاصي ولا فيروز. كما لم يُدعَ أحدٌ من ورثة عاصي الرحباني لاستشارته قبل صدور القرار الوزاري. هكذا شاركت كل الأطراف المعنية وغير المعنية، باستثناء المعني الأول. وهكذا تمّ تكريم فنّ كل العائلة الرحبانية إلا صانعي مجد هذه المدرسة في مرحلة الأخوين، أي عاصي وفيروز، وفي المرحلة التالية، أي فيروز وزياد (نذكر زياد لأنه تم ذكر العائلة الرحبانية في القرار). بعد ذلك، تم تعديل القرار مرة أولى. وهذا التعديل ليس ذاك الذي تم تداوله والذي يعني مسألة سقوط اسم عاصي سهواً! فما تنبّه المعنيون أولاً إلى سقوطه سهواً ليس عاصي، بل أسماء أربعة أعضاء إضافيين (24 شباط 2009)، ليس بينهم من يمثل ورثة عاصي الرحباني! هنا يأتي بيان ريما للاحتجاج على تغييب عاصي عن مرسوم وزارة التربية، الذي نشرته في 19 أيار (مايو) 2009، أي بعد أكثر من شهرين من صدور القرار المذكور، وبعد حوالي شهرين من تعديله الأوّل! مع الإشارة إلى أن المجلة التربوية التي نشرت القرار لم تصل إلى ريما إلا عن طريق الصدفة في 17 أيار 2009. أما التعديل الثاني، والذي يطاول اسم اللجنة فجاء في 19 أيار 2009. أي في التاريخ ذاته لصدور بيان ريما. وجاء فيه: «تشكيل لجنة لتخليد فن وأدب الأخوين رحباني ومنصور الرحباني بعد غياب عاصي الكبير (...)». ردّ يومها أولاد منصور على بيان ريما، متهمينها بنشر البيان على رغم معرفتها بالتعديل المذكور، مدافعين عن حسن نية الوزارة التي صحّحت الالتباس الوارد في النسخة الأولى من القرار. هنا تجدر الإشارة إلى أن ريما بعثت البيان عبر الفاكس إلى الوكالة الوطنية في اليوم ذاته الذي تم فيه التعديل الأخير لقرار وزارة التربية. لكن الوكالة لم تنشره، متذرعة بحجة أن الفاكس لم يصلها. لكن ما يفضح هذه الأكذوبة، هو فاكس وصل إلى ريما من غدي الرحباني، مكتوب بخط اليد وموقّع بتاريخ 19 أيار 2009، بهدف ثنيها عن نشر البيان وفضح «الالتباس» الذي شاب القرار الوزاري الأول. يطلب الأخير من ريما «الاطلاع على مشروع القرار القاضي بتعديل القرار السابق الذي عُدّل وصُحّح ليتم توقيعه من قبلكم (...)». فالفاكس الذي وصل إلى الوكالة الوطنية، جيّرته الأخيرة فوراً، عبر الفاكس أيضاً، إلى منزل منصور (بعدما نكرت تلقّيه!) وذلك لحثّ أولاده على التحرك لمنع خروج الفضيحة إلى العلن. قبل الدخول في تفنيد النيات في ما يخص القرار الأول وتعديله، نشير إلى الرسالة التي وجّهتها فيروز عبر محاميها (21 أيار 2009) إلى كل من وزيرة التربية والتعليم العالي آنذاك، بهية الحريري، ووزير الثقافة تمّام سلام. وفيها اعتراض على إغفال اسم عاصي في القرار الأول وتذويبه في العائلة الرحبانية وعدم استشارة فيروز (كوريثة لعاصي الرحباني) حول تشكيل اللجنة المذكورة وكيفية عملها. غير أن الرسالتين بقيتا من دون جواب. إذاً بالعودة إلى القرار الوزاري وتعديله. حُكِيَ عن خطأ في ما يخص هذا القرار ولكن لم يُشَر أبداً إلى نوعية الخطأ. فالأخطاء أنواع وفئات. هناك الخطأ المطبعي، واللغوي، والطفيف، والمقصود، وذو النوايا المبيّتة، والجوهري... ففي أي خانة نضع سقوط (اسم) عاصي الرحباني سهواً؟! في أي خانة نضع استدراك الخطأ بعد شهرين؟! في أي خانة نضع استدراك إضافة أربعة أعضاء إلى اللجنة قبل الانتباه أن عاصي غائب؟! أما بالنسبة إلى تصحيح الخطأ، فقيل إنه قد تمّ تصحيحه فوراً (كما صرّح أبناء منصور في الإعلام). ولكن فوراً تعني لغوياً: تماماً بعد كذا. المشكلة ليست في الخطأ ولا بطبيعته ولا بتصحيحه فحسب، بل في تحديد ال «كذا». بمعنى آخر، لقد تمّ، فعلاً، تصحيح الخطأ. وذلك، فعلاً، فوراً. لكن السؤال المهم هو: فور ماذا؟ فور ارتكابه؟ لو كان هذا صحيحاً، لتمّ تصحيح الخطأ بعد ثوانٍ من ارتكابه، وبالتالي تنتفي النية السيئة من توصيفه، ويكون بالتالي من النوع اللغوي أو الإنشائي، أي له علاقة بصياغة الجملة التي لم تبدُ قادرة على التعبير عن المعنى المراد. والمعنى المراد في هذه الحال يعني النية البديهية والرغبة الصادقة في تكريم عاصي ومنصور. فور الإدراك بأنه فادح؟ إذا كان هذا صحيحاً فتلك مصيبة. لكن الواقع هو غير ذلك. إنه المصيبة الأكبر. والمشكلة أخطر وأعقد وأدقّ مما تمّ الإيحاء به من نوايا حسنة في إضافة اسم عاصي. فقد تم تدارك الخطأ بعد فشل المحاولة الخبيثة الأولى، والتي تمّت تسميتها ب «سقط سهواً» إثر بيان ريما. فالنص صيغ على ما يبدو بالطرق التي تموّه تغييب عاصي إلى أقصى حدّ متاح قبل الفضيحة. وكان فرصة ذهبية لبدء مخطط أولاد منصور: إلغاء عاصي من الأخوين في مرحلة أولى، وإلغاء الأخوين من الرحابنة لاحقاً. والسؤال: هل منصور يوازي الأخوين؟ إذا كان كذلك، لما إذاً زَجّ اسم الأخوين رحباني في القرار؟ أليس في ذلك إهانة لرجلِ عظيم اسمه منصور، يوازي نتاجه منفرداً نتاج شخصين؟ لذا، تفضلوا كرّموا إما منصور وحده (ولا مشكلة في عدم ذكر عاصي ولا الأخوين) إما الأخوين وحدهما. هذا ما طالبت به ريما الرحباني وزارة التربية منذ صدور القرار. ولهذا الغرض أيضاً أتت زيارة ريما وزير الثقافة الحالي حسن منيمنة، حيث عرضت له تفاصيل الموضوع وطلبت تصحيح الخطأ. غير أن الوزير نكر وصول فاكس الاستنكار الأول، ولم يحرك ساكناً لغاية اليوم، ما يعني أن المخطط لا يزال يسير بأمان (الله والدولة). في كل ذلك نسمع صوتاً يقول: «أدخِلوا فيروز إلى السجن. حاكموها بجرم سرقة تعبها. لكن، حاكموها أيضاً بجرم سرقة قلوب الناس. استعيدوا لنا منها قلوبنا، كي يكون فينا ما يغفر لكم فعلتكم». هذا ليس سوى ما يمكن معالجته بالمنطق وتبيانه بالوقائع والحجج القانونية والمنطقية. أما الأهم من ذلك، فهو الحقيقة (بأحرفٍ كبيرة). تلك التي لا يمكن إثباتها بالأدوات والأساليب الاجتماعية التي صنعها البشر (القوانين، الوثائق، الأعراف،...). الذبذبات الخفية التي تتبادلها قلوب الناس لاإراديّاً، ستتولى المهمة الكبرى. وهذا متروكٌ للزمن («الحقيقة مع الوقت»، كما تنهي فيروز حكايتها في شريط «كانت حكاية»). فالموسيقى نوتات على ورق. يمكن لمسها ورؤيتها وقراءتها. أما جمالها أو بشاعتها فأحدهما هنا. أمامنا. في النوتات. على هذه الأوراق أو تلك. لكن أيهما وأين؟ أين الجمال؟ كيف نراه إلا بأذُنَيْ القلب؟ هل هناك طريقة أخرى لالتقاطه؟ نعم. ثمة صورة أخرى للجمال. أصغر مِن أن تراها عجرفة الكبار. وأصفى مِن أن تخطئها براءة الأطفال. هي صورة الجمال في مرحلة تكوينه الجنينية. هي ذاك الإخلاص المُشِعّ من عينيّ رجلٍ، في صورة بالأسود والأبيض. صورةٌ عتيقة تجمع أخوَين. هي أيضاً صمتُ ألوانٍ يزيّنها وجهُ سيدة. سيدةٌ بات صوتها ملك زهور الحقول وجدران المنازل. فمَن يسكتها؟!