أقر القاضي الدكتور عيسى الغيث بأن التراث الإسلامي الفكري منه والشرعي، يضم الكثير مما أعيد إحياؤه مجدداً وأثار جدلاً واسعاً في واقعنا المعاصر. ومع أنه أكد وجوب «مراعاة الأحوال والظروف الزمانية والمكانية» وأن ثمة مسائل «لا تدرس إلا في محاضن العلم وعند العلماء لئلا يفتتن الناس بها» إلا أنه رأى ذلك غير مبرر بحال «تسفيه المخالف ورميه بالتهم والاعتداء على العلماء في طول التاريخ وعرض الجغرافيا»، ورأى الاقتصاد في تناول المسائل الشائكة علمياً لا يجوز أن يبلغ حد التطرف «ونبالغ حتى نكمم الأفواه أو نضلل الآخرين». وسجل الغيث الذي اشتهر بشجاعته في إبداء رأيه حتى وإن خالف السائد أن سلطة الغوغاء، باتت أخطر على الرأي من سلطة السياسي، وذلك أن «سطوة الغوغاء عملياً قد سارت بالآراء بالإكراه، وكم من رأي يقال في الخفاء ويكتم في العلن وليس خوفاً من الله أو رهبة من السياسي المظلوم وإنما خشية من الغوغاء الظالمين، ورحم الله أئمة الإسلام الذين كانوا يقودون ولا ينقادون». وفي ما يأتي نص حوار مقتضب معه. بحكم أنك أحد الفقهاء المتابعين للفكر الإسلامي وتاريخه، هل يصح القول ابتداء بأن «تراثنا الفكري» يضم بين جنباته قضايا مثيرة للجدل، تشبه «قنابل» قابلة للانفجار في أي وقت خصوصاً إذا لم يتم التعامل معها بحكمة ودراية؟ - تراثنا الفكري وخصوصاً الشرعي منه يضم الكثير من المخزون العلمي والمعرفي، وقد يكون من ضمنها قضايا مثيرة للجدل المعاصر، إما لأنها من المسائل الشاذة عند الفقهاء على مر العصور، وإما لأنها مخالفة للسائد في هذا العصر أو ذلك المكان، فما نعده مثيراً قد يكون هو الغالب عند العلماء على مر (التاريخ) والعكس بعكسه، وقد يكون هو الغالب أيضاً على طول (الجغرافيا)، فنحن جزء من التاريخ كما أننا جزء من الجغرافيا، ولا يجوز نقلاً ولا عقلاً أن نحتكر الحق أو نصادره. ولكن من باب الأدلة الشرعية بأنواعها المتعددة المعروفة عند الأصوليين قد يكون من الواجب مراعاة الأحوال والظروف الزمانية والمكانية. لكن لا يعني هذا تسفيه المخالف ورميه بالتهم واعتداءنا على العلماء في طول التاريخ وعرض الجغرافيا، مع التسليم بأن هناك مسائل لا تدرس إلا في محاضن العلم وعند العلماء لئلا يفتتن الناس بها، ولكن في المقابل لا نتطرف في هذه المسائل ونبالغ حتى نكمم الأفواه أو نضلل الآخرين، فاليوم قد يخرج الشيخ السعودي على القناة الفضائية أو المواقع الإلكترونية ليفتي السائل النيجيري. وفي المقابل قد يخرج الشيخ المصري ليفتي السائل الفيليبيني، فأصبحنا في قرية كونية واحدة وأحياناً وكأننا في غرفة واحدة عبر وسائل الاتصالات وتقنية المعلومات، فيجب أن نراعي جميع هذه المعطيات عند تعاطينا للمسائل والقضايا، وأنا على يقين أننا لو طبقنا منهج البحث العلمي وأصول الحوار وآداب الخلاف لتلافينا غالب الاختلافات والتي صارت خصومات قد تصل للتبديع والتكفير. سأفترض أنك ترى في تراثنا قنابل حقاً، عندئذٍ ما هو الطريق الأمثل للتعاطي مع هذا الموروث المفخخ؟ - الطريق في نظري هو التجرد والحياد والموضوعية عند بحث المسألة ودراستها، فإذا سلمنا من تأثير سلطة السياسي من جهة وسلطة الجماهير من جهة أخرى ولم نراع سوى الله والدار الآخرة فسنتعاطى مع هذه المسائل بحكمة وعلم وعقل من دون أي توتر أو تشنج، ولكن حينما يراعي الواحد منا هذه السلطة أو تلك أو لا يكون مؤهلاً للبحث والنظر ثم يتطفل ويفتئت فلا تستغرب حينئذ أن يخرج لك ولد مشوه ما دام قد تخطفته الأنساب من هنا وهناك. وبالمناسبة وشهادة للتاريخ أنني أعتقد بأن سلطة الجماهير على الباحث والمقرر أكثر بكثير من سلطة السياسي (في واقعنا المحلي على الأقل)، ولكننا نغالط أنفسنا ونتصور أن السياسي وراء كل رأي ونعتدي على ديانتنا حينما نجيز لأنفسنا هذا التجاوز، فحينما تخالف أحدهم فتتهم حينئذ بأنك تراعي الآخر، وكأنهم يريدونك بأن تكون مشركاً أو مرائياً لتسلم من هذه التهم وفقاً لما قاله الفضيل بن عياض (العمل من أجل الناس شرك، وترك العمل من أجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما). وحين نرى الواقع من دون تدليس سنكتشف أن السياسي لم يتدخل أو يرهب ليحقق رغبته بخلاف الآخرين الذين يفجرون في الخصومة عندما تخالفهم وكأنه زجر لك وردع وقائي لغيرك ممن يخالف سلطتهم، وما حصل من حرية الاختلاف في الرأي ولأكثر من قضية دليل على براءة السياسي من التدخل بخلاف الآخرين، وخذ مسألة توسعة المسعى ومسألة تدوين الأحكام «التقنين» وغيرهما، وبلا مجاملة ولا تزلف أقول كم نظلم السياسي نظرياً في حين أن سطوة الغوغاء عملياً قد سارت بالآراء بالإكراه، وكم من رأي يقال في الخفاء ويكتم في العلن وليس خوفاً من الله أو رهبة من السياسي المظلوم وإنما خشية من الغوغاء الظالمين، ورحم الله أئمة الإسلام الذين كانوا يقودون ولا ينقادون، والله المستعان. هناك من يرى حاجة ماسة إلى استراتيجية عامة لإحباط مفعول تلك القنابل عندما تطفوا على السطح، ما هي الآلية المثلى في سبيل تحقيق ذلك في نظرك؟ - الحل أولاً وأخيراً هو في الفقه بأنواعه المتعددة فهل سمعت يوماً أو شاهدت التطبيق الشامل لهذا الفقه المتكامل بدءاً من فقه السنن ومروراً بفقه المقاصد وفقه المآلات وفقه الموازنات وفقه الأولويات وفقه الاختلاف وليس نهايته بتحقيق فقه النص وفقه الواقع على قاعدة الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فكل مسألة لها حل عند أهلها المتخصصين من دون غيرهم من المتعالمين والمتطفلين. يجري التعامل مع هذا النوع من الموروث بأمزجة متضادة، فهناك المتخصصون في اصطيادها وتفجيرها، والمهتمون بإحباط مفعولها تارة بجحود وجودها، وتارة أخرى بالتقليل من شأنها، أو ترهيب أو وعيد مثيريها، فأي تعامل تعتقد أنه يجب أن يكون هو السائد مع هذه النوعية من المسائل؟ - نحن مجتمع تعودنا على عدم قبول الاختلاف ولو في أذواقنا المأكلية والمشربية والملبسية والمسكنية وهكذا فقس، في حين نجد الاختلاف نظرياً في أروقة الجامعات وحلق العلم، لكن ما أن تمارسه حتى تتخطفك الأيدي، ولذا فالإبداع والابتكار العلمي عندنا نادر لأنه مختزل في التقليديات بعيداً عن الاجتهاديات والتجديديات التي أمرنا بها في ثوابتنا الشرعية والكونية، ولذا لو سألت العالم والباحث والمثقف عن الحارس الذهني المتوجس عند رغبته بالاجتهاد سواء في المقروء أم المسموع أم المرئي لأجابك بأن الناس هم الشاخص أمامه، في حين أن الحق والغالبية غائبان، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة. الملاحظ أن كثيراً من هذه القنابل الفتاكة هي في مسائل الفروع، فكيف جرى هذا، والتأصيل على أن الاختلاف في هكذا مسائل سائغ؟ - أنا كغيري من الأسوياء والعقلاء لا نحب إثارة الخلافيات، لكن يجب التفريق بين الأصول والفروع، وبين الكليات والجزئيات، وبين الثوابت والمتغيرات، وأسوأ منه أن تجد من يعامل الفروع معاملة الأصول، في حين أنه يرتكب مخالفات تنتهك الأصول زاعماً بكونها من الفروع، أو متجاهلاً لها أساساً، وكما أن هناك غربة في الدين لمن يعيش في غير محاضنه، فهناك أنواع عدة من الغربة، فهناك مثلاً غربة المجتهد والمفكر والمجدد الذي بدلاً من أن يصبح الموجه والمقدم للعطاء إذا به يقاد إلى مذبح التقليد والتبعية، ومع أن وسائل التقنية قد تطورت إلا أننا للأسف قد وظفناها لتأصيل هذه الممارسات السلبية وليس العكس، ومع ذلك فأنا متفائل جداً بالمستقبل القريب، وموقن بأن الشمس لا تغطى باليد، ولا جديد تحت الشمس، ويجب أن ندرك أننا حينما نجتهد فإنما نمارس واجباً شرعياً بالتفكر والتدبر والاجتهاد وعدم كتمان العلم وتبيينه للناس، والله من وراء القصد.