أولوية الصين، اليوم، هي ضمان استقرار أمنها الداخلي. ولكنها تعُد العدة للتوسع في الخارج. وطموحات سياستها الخارجية ليست أقل عدوانية من نظيرتها الأميركية قبل قرن. فالولاياتالمتحدة خاضت حربها الداخلية الأخيرة من سلسلة الحروب الهندية، في 1890، ووسعها، على وقع تعاظم نموها الاقتصادي وتوسعها التجاري، شن حروب لحماية مصالحها في جنوب أميركا ومنطقة المحيط الهادئ. وعلى خلاف الولاياتالمتحدة، لا تنتهج الصين نهجاً تبشيرياً – أخلاقياً في توسعها الخارجي. ويحدوها الى التوسع سد حاجاتها من الطاقة والمعادن الاستراتيجية، لمواكبة ارتفاع مستوى عيش سكانها، خمس سكان العالم. وعلى هذا، بادرت الصين الى التقرب من دول بعضها مجاور، وبعضها الآخر في أصقاع بعيدة. وهي تنتهج سياسة واقعية تتولى تغذية دورتها الاقتصادية من طريق بسط نفوذها على أجزاء من أفريقيا غنية بالنفط والمعادن، وتأمين معابر في المحيط الهندي وبحر جنوب الصين، اللذين يربطان عالم منطقة الخليج العربي – الفارسي الغنية بموارد الطاقة على الساحل الصيني. ولا تُلزم بكين شركاءها الاقتصاديين شروطاً قانونية. وبعض أنظمة هؤلاء الشركاء سلطوية ودموية مثل إيران وميانمار (بورما) والسودان. ولذا، تتعارض السياسة الصينية الخارجية مع السياسة الخارجية الأميركية التبشيرية – الأخلاقية، وتنازع الهند وروسيا على دوائر نفوذهما التقليدية. ولا شك في بروز نفوذ الصين وظهوره أوراسيا وافريقيا. والنفوذ هذا ضعيف الشبه بنظيره الامبريالي التوسعي في القرن التاسع عشر. فهو نفوذ ناعم يتلاءم مع عصر العولمة. وتُسهم الصين في تغيير موازين القوى في الشرق من طريق تأمين حاجاتها الاقتصادية. وتواجه الصين مقاومة داخلية في شينغيانغ والتيبيت. فالتوترات الاثنية في الاقليمين تُسهم في مفاقمة مشكلات بكين مع دول الجوار. وعلى رغم ان الصين دولة، منذ آلاف السنوات، لم يُلحق بها اقليم شينغيانغ، قبل نهاية القرن التاسع عشر. وخرج الإقليم من قبضة الحكم الصيني في أوقات كثيرة. وفي 1949، اجتاح شيوعيو ماوتسي تونغ الإقليم، وألحقوه بالصين. ولكن قوم الايغور التركمان تمرد على حكم بكين، في 1990 والعام الماضي. ويبلغ عدد الايغور في الصين نحو 8 ملايين نسمة، ونسبتهم الى عدد سكان الصين أقل من 1 في المئة. وغالبية سكان الصين هي من قوم الهان في وسط الصين وفي المناطق المطلة على المحيط الهادئ، في وقت تنتشر أقليتا الايغور والتيبيتيين في غرب البلاد وفي جنوب غربه. وطوال عقود، سعت الصين في تأمين مصادر الطاقة والغاز الطبيعي والحديد والصلب من التيبيت وشينغيانغ. ولذا، نقلت أعداداً كبيرة من الهان الى الاقليميين للاستيطان هناك. وتقربت بكين من جمهوريات آسيا الوسطى التركمانية للحؤول دون دعمها إيغور شينغيانغ، والقيام مقام قاعدتهم الخلفية. وبسطت الصين نفوذها في عدد من دول آسيا الوسطى. ولكن النفوذ هذا لا يوفر بَعد حاجاتها من الطاقة. فهو يقتصر على مباشرة مد خطي أنابيب طاقة ينجزان في القريب العاجل. وأولهما ينقل النفط من بحر قزوين عبر كازاخستان، الى شينغيانغ. وتنقب الصين عن الصلب في مناطق مضطربة جنوبكابول بأفغانستان، وتُعد للتنقيب عن الحديد والذهب واليورانيوم في المنطقة نفسها. وتخطط بكين لشق طرق بأفغانستان وباكستان تربطها بشينغيانغ، وتثبيت موطئ قدم لها في مرافئ مطلة على المحيط الهندي. وتسعى في مدّ أنابيب طاقة في البلدين هذين. وتخشى بكين استقلال التيبيت وانفصاله عنها. فمساحة الإقليم، وتربته غنية بالحديد والصلب، كبيرة. ولا غنى لبكين عن المساحة هذه التي قد ترجح نفوذ شبه القارة الهندية في مناطقها الشمالية، إذا استقل التيبيت. فالهند تقف حجر عثرة أمام الهيمنة الصينية على آسيا. ويرى الباحث دانيل توينينغ أن باعث التوتر الحدودي الصيني – الهندي هو قلق الصين من تحدر خليفة الدالاي اللاما المقبل من الحزام التيبيتي شمال الهند، أي النيبال وبوتان. فخليفة الدالاي لاما قد يعادي الصين وينحاز الى الهند. وتمتد حدود الصين الشمالية حول منغوليا. وهذه اقليم كبير يبدو كأنه اقتطع من الصين. والكثافة السكانية في منغوليا هي من الأدنى في العالم، على خلاف الكثافة الصينية المرتفعة. وقد تحكم بكين قبضتها على منغوليا الغنية بالنفط والفحم واليورانيوم، وعلى أراضيها الزراعية الشاسعة. وتمتحن طريقة تعامل الصين مع منغوليا نواياها الإمبريالية التوسعية. والى شمال ثلاث محافظات صينية وشمال منغوليا، تقع أراض روسية مساحتها ضعفي مساحة أوروبا. ويعيش في الجهة الروسية من الحدود مع الصين نحو 7 ملايين نسمة، قد ينخفض عددهم الى 4،5 ملايين نسمة في 2015، في وقت يبلغ عدد سكان الجهة المقابلة نحو 100 مليون صيني. وشأن الحال في منغوليا، لا يُخشى اجتياح الجيش الصيني المناطق الروسية، وضمها الى الصين. فما تنظر اليه موسكو بعين الريبة هو الزحف الصيني السكاني المتعاظم والسيطرة على المرافق في بلاد كانت يوماً جزءاً من امبراطورية سلالة كينغ الصينية. وفي أثناء الحرب الباردة، أدت نزاعات حدودية بين الصين والاتحاد السوفياتي الى استنفار مئات آلاف الجنود السوفيات على الحدود، وأدت الى الخلاف السوفياتي – الصيني، في أواخر الستينات. والجغرافيا قد تُباعد من جديد بين روسيا والصين. فتحالفهما الحالي تكتيكي غير استراتيجي. وقد يصب التباعد هذا في مصلحة الولاياتالمتحدة التي مالت، في ولاية الرئيس نيكسون، الى الصين. وفي المستقبل، قد تبرم واشنطن تحالفاً استراتيجياً مع روسيا لموازنة قوة امبراطورية الوسط. وتبسط الصين نفوذها في جنوب شرق آسيا. وتبدو الدول الصغيرة والضعيفة لقمة سائغة. ولا يُعتد بالحواجز الجغرافية الفاصلة بين الصين وفيتنام ولاوس وتايلندا وميانمار. وأكبر دول جنوب شرق آسيا مساحةً هي ميانمار. ووضعها يشبه وضع بلجيكا في مطلع القرن العشرين. فهي تواجه خطر تحكم قوى الجوار الكبيرة في شؤونها. وتتنافس الصين والهند على تطوير مرفأ سيتاوا بميانمار المطل على المحيط الهندي، ومد خط أنابيب غاز الى حقول الغاز في خليج البنغال. وتنتهج الصين سياسة فرق تسد في جنوب شرق آسيا. فهي تفاوض كل دولة من دول منظمة «آسيان» على حدة. وتبيع السلع الغالية في أسواق الدول هذه وتشتري سلعاً زراعية رخيصة منها، وتراكم فوائض تجارية كبيرة. ويتزامن سعي الصين في الهيمنة على هذه المنطقة مع تقهقر نفوذ تايلندا التي ينهشها الاضطراب السياسي. والى جنوب تايلندا، يبدو أن ماليزيا انزلقت الى الاحتماء بعباءة الصين الاقتصادية، على رغم تنامي شعور الاقلية الصينية الماليزية بالقلق على مصيرها في البلاد. وتخشى سنغافورة استتباع بكين لها، على رغم ان غالبية سكانها من الاثنية الصينية. ولذا، أرست علاقات عسكرية قوية ومتينة مع تايوان. ودعا رئيسها الولاياتالمتحدة الى رعاية المنطقة عسكرياً وديبلوماسياً. ويبدو أن إندونيسيا تحتاج الى انتشار الأسطول الأميركي البحري في جوارها لدرء قوة الصين. ولكنها تتخوف من الظهور في مظهر حليف أميركا في العالم الإسلامي. ومع تراجع القوة الأميركية في جنوب شرق آسيا وبروز نظيرتها الصينية، تسعى دول المنطقة في التعاون للتصدي لسياسة فرق تسد الصينية. فعلى سبيل المثال، تتعاون إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة على مكافحة أعمال القرصنة. * كبير الباحثين في مركز «نيو اميركان سيكيورتي» ومراسل «ذي أتلانتيك»، عن «فورين أفيرز» الاميركية، 5 - 6/2010، إعداد منال نحاس