لم يعد تشكيل الحكومة العراقية قضية سياسية، تتعلق بمفاوضات على برنامج حكومي وضمان غالبية نيابية. لقد باتت عرقلة تشكيل هذه الحكومة تواطؤاً مباشراً على قتل الشعب العراقي. إن لم يكن المقصود بهذه العرقلة مزيداً من الدماء العراقية تُدفع ثمناً لاغراض لا مصلحة للعراقيين فيها ولا علاقة لهم بها. اذ ان شيئاً، لا الدستور الملتبس ولا التمسك بالسلطة ولا شروط الكتل والشروط المضادة، يبرر استمرار الفراغ والمقتلة المستمرة في العراق. وبات واضحاً ان الرافضين من الكتل العراقية للتفاهم، على اساس نتيجة الانتخابات الاخيرة، يساهمون باستمرار المقتلة، سواء ادركوا ذلك أم لم يدركوا. كما انه لم يعد خافياً ان العرقلة أُفتعلت من اجل اطاحة نتائج الانتخابات، وان "ارغام" الكتل الشيعية على التحالف، في اجتماعات عقدت في طهران، هدفه ضمان استمرار الهيمنة الايرانية على القرار الحكومي العراقي، واستبعاد شريحة كبيرة من الشعب العراقي عن الحكم. علماً ان بين هذه الكتل الشيعية المتحالفة من تشجنات وخلافات شخصية ما يحول دون تفاهمها على تسمية رئيس للحكومة، وما ينزع عنها صفة التحالف. لكن كل هذه المفارقات غير مجدية في اقناع هؤلاء بالعودة الى الاحتكام الى نتائج الانتخابات في هذه التجربة الوليدة. وتكشف هذه التجربة العراقية، وقبلها التجربة اللبنانية والتجربة اليمنية والتوترات مع بلدان خليجية، ان السياسة الايرانية الحالية العاملة على فرض اجندتها الخاصة، بغض النظر عن النتائج السلبية على البلدان العربية، تفعل ذلك بمقدار كبير من الغطرسة والاستعلاء والاستكبار. فكل ما تعلنه طهران كمآخذ على السلوك الاميركي في المنطقة، تمارسه مضاعفاً على البلدان العربية. وتضيف اليه لهجة استعلائية، لا يخفيها الكلام المنمق عن الحرص الايراني على الاستقرار والامن. خصوصاً ان هذين الاستقرار والامن لا يستقيمان الا في ظل المناورات الايرانية والعروض العسكرية المستمرة واعلان تصنيع الاسلحة الحديثة. وهذا ما تؤكده عملية تشكيل الحكومة في العراق حيث بات واضحاً ان ثمة مصالح متبادلة بين الارهاب والقتل العشوائي وبين الامساك الايراني بالقرار الحكومي. فكل منهما يبرر سلوكه بممارسات الآخر، فتبقى الحكومة مفككة ومعلقة القرار، ويبقى العراقيون يتساقطون في الشوراع على ايدي القتلة والارهابيين. لتسقط كل الادعاءات الايرانية بالحرص على ارواح العراقيين ومصالحهم، في الوقت الذي لا تتوقف الانتهاكات البرية لسيادة الحدود الدولية العراقية. انها ارفع مراتب الغطرسة والاستكبار الايرانيين. ويغلب الظن ان هذا الجانب في سياسة طهران هو الذي يعرقل تسوية ملفها النووي. فمع تنديدها بالسلاح النووي وبالدول التي تملك هذا السلاح، تتمسك بمواقف ترفض فيها اي شفافية او اعطاء ضمانات حول طبيعة برنامجها، باسم كرامة قومية قد تؤدي بالمنطقة الى مزيد من التوترات والمواجهات، ومن دون اي حساب للجوار الايراني. لا بل تتعامل طهران مع هذا الجوار على انه مسرح لعملياتها في مواجهة الولاياتالمتحدة، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من تهديدات مبطنة ونظرية دونية. ويظهر ذلك في الكلام الرسمي الذي يلامس الشوفينية عن الحضارة الفارسية والقدرات الاستثنائية للشعب الايراني في تطوير التقنيات والاسلحة. هذه النظرة الدونية الى الجوار العربي تتضح ايضاً في النزاع العربي - الاسرائيلي. اذ تضع طهران، الى الكلام العلني عن تخاذل العرب وظهورها بمظهر القوة الوحيدة التي تتصدى لاسرائيل، ثقلها المالي والسياسي لعرقلة الخطة السياسية العربية المقررة في قمة عربية وتلقى الاجماع العربي، وتستثمر حصار غزة للتنديد بالعرب وتدعم الانقسام الفلسطيني ومنع اي مصالحة تلح الآن اكثر من اي وقت مضى. لقد استولت إسرائيل على الارض الفلسطينية فيما استولت ايران على القضية.