لاستقلال لبنان عام 1943 معنى خاص مختلف عن معنى الاستقلال عند الشعوب الأخرى لأن هذا الاستقلال هو الذي أعطى اللبنانيين هوية وطنية واحدة دورة الحق تدور، فبالأمس كان حق لبنان بالمطالبة بتقرير ميليس أما اليوم فقد جاء حق سورية ايضا بأن ينصفها ميليس فلا يتهمها كما يفعل الصهاينة باغتيال الحريري حتى ولو ثبت أن جهة غير حاكمة في أي بلد ارتكبت العمل لتقدير خاص عندها لا يشاركها فيه أحد. تجنباً لتكرار ما عانى ويعانيه العراق يتداعى العرب اليوم بعضهم بعضا إلى موقف وإلى صيغة انصاف دولي تحفظ الكل ولا سيما سورية الآن في فعلة البعض. من مملكة عبدالله بن عبدالعزيز إلى جمهورية مبارك إلى جزائر بوتفليقة تنتشر حكمة التحسب والحذر من قرار جائر ضد سورية ينطوي في ثناياه على ايذاء جماعي للعرب كعرب فلا يكون بينهم من لا يطاله الغضب عن ذنب ارتكبته قلة موجود مثلها بلا عقاب في أكثر الأمم. إن العبرة في أمثولة العراق تنتشر بين العرب ككل لتفادي انهيارات يتسبب بها طيش قلة غير مسؤولة لم تفهم بعد ما يفعله للمجموع العربي طيش قلة. هذا ما كان قد ظهر قبل جلسة مجلس الأمن بل هذا ما كان قد قرأه سلفاً وتحسب له الكثير من حكماء العرب وشعوبهم بعد مضي أيام بل فترة بسيطة من انطلاق مشروع ميليس في اعداد التقرير المعروف ولعل لبنان بالذات مؤسسات ومجتمعا كان من أول المتحمسين للتنبه من خطورة ما يجري ربما أكثر من الدول والكيانات المستهدفة نفسها. استقلال لبنان كان هناك في البداية ليحذر من انتشار الخطأ والخطيئة ونداء الهاوية وسبحان من جعل استقلال لبنان أحد أوطان العرب الصغيرة شاهدا ومبشرا ونذيراً. رغم الارتجاجات القوية التي أحدثتها تصريحات تيري رود لارسن في أوساط حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية وبالتالي في لبنان ككل ظلت مهمة القاضي الدولي الألماني ديتليف ميليس هي الأكثر صدارة في الاهتمامات وعمقا وردود فعل في لبنان وسورية والعالم. ذلك أن هذه المهمة تشمل موضوعين هما الأهم في الحياة اللبنانية: الأول استقلال الدولة كدولة كاملة السيادة تجاه القريب والبعيد، هل هو واقع قائم بالفعل وإلى أي حد ودرجة، والموضوع الثاني: دولة الاستقلال هل هي متصفة بكل المعايير العلمية والأكاديمية والحضارية التي تتصف بها الدولة الحديثة. ما شجع ميليس على مواجهة الكيفية العملية التي يعالج بها هذين الموضوعين هو الاتجاه الانفتاحي الذي اتجهت اليه دمشق بتشكيل لجنة من الصحفيين للتحقيق في مقتل الحريري تكون سورية وتعمل بالوقت نفسه مع ميليس وهكذا فانه في حالة القبض على الفاعلين يكون المتهم هؤلاء لا سورية كسورية. أين نحن اليوم مع مهمة القاضي الألماني ميليس وعنوانها العريض فحص الاستقلال اللبناني في ذاته ومع جارته سورية من تلك الأيام التي كانت فيها السياسة الاميركية وغير الاميركية تنظر بتعاطف إلى الدخول السوري للبنان وتعتبره عملية ضرورية للحد من تأثير الوجود الفلسطيني المسلح في السياسة اللبنانية. جاءت مهمة ميليس في لبنان كمؤشر على الاهتمام الدولي باستقرار وطن الارز واستقلاله متأخرة في زمانها لا متعجلة اذ ما كان يجوز أن تطول مدة الاهمال الدولي لظاهرة قتل الرؤساء أكثر مما طالت خاصة وأن الرعاية الدولية لفكرة لبنان كمشروع دولة أو كيان سياسي مستقل تعود إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى وقد ذهب البطرك الحويك إلى فرنسا وعصبة الأمم وبرفقته وفد يمثل بشكل أو آخر النسيج الوطني اللبناني المتعدد الطوائف. وعاد البطرك والوفد مكللين بغار النجاح في أخذ دعم دولي واسع للدولة الجديدة والوطن المطلوب من الداخل و المحتضن من الخارج. طبعا لم يكن جميع اللبنانيين كما يحصل عادة متحمسين بقدر متساو للمشروع ولكن الالتزام الدولي كان واضحا بدعم الوطن الواحد وكلمة انتداب أو دولة منتدبة التي ظهرت في ذلك الوقت حملت في طياتها معنى الالتزام الدولي بالتأييد. وقد حملت الحركة الاستقلالية اللبنانية والسورية راية التصحيح لمفهوم فرنسا لفكرة الاستقلال السوري واللبناني على حد سواء وتنقية هذا المفهوم في كل ما يتناقض مع الاستقلال بمعناه الصحيح الكامل. لم يترك نضال اللبنانيين والسوريين المشترك آنذاك اي مجال لأي غموض في ما تعنيه كلمة الاستقلال كان يقال في ذلك الزمان الاستقلال التام أو الموت الزؤام. رفض العلويون في سورية بأكثريتهم وبقيادة الشيخ صالح العلي وسواه فكرة التفريق بينهم وبين بقية السوريين، ورفض الدروز كذلك في الجبل فكرة استقلال الجبل وذلك بقيادة سلطان الأطرش كما رفض السوريون من مسلمين ومسيحيين اي دولة لا تكون دولة السوريين جميعاً. الشيء نفسه وبالحماسة نفسها التف اللبنانيون حول فكرة الدولة الواحدة المستقلة بقيادة البطرك الماروني والزعماء الوطنيين ودعمت سورية مواقف الوطنيين اللبنانيين الواضحة مشككة في المقابل بالاعتدال المشبوه الذي راح ينادي به بعض وجهائها وقضاتها الرسميين كالشيخ تاج الدين الحسيني وهتفت جماهير المصلين في الجامع الأموي في دمشق تثني على اللبناني الحر وتتحفظ عن السوري المهادن للانتداب لتهتف: «ليعيش البطرك عريضة حبيب الله وليسقط الشيخ تاج عدو الله». قل أن حظي استقلال لشعب بالاحاطة المحلية والعربية والدولية التي حظي بها استقلال لبنان ومثله الاستقلال السوري. هذا النوع من الاستقلال الوطني المفتوح على كل مواطن وكل عربي والمتمسك بارادة الشعوب هو الذي ينادي به العربي اليوم وخاصة اللبنانيين الذين يؤمنون كل الايمان ولا سيما بعد قيام اسرائيل ان كل خلل في أوضاع لبنان الداخلية وكل عبث باستقلاله سواء جاء من داخله أو خارجه ليس في مصلحته. من هذا المنطلق نجدهم اليوم متوافقين ومؤيدين لكل جهد دولي يريد أن يحصن الاستقلال على أرض وطنه ويجعل من هذا الاستقلال بالنتيجة قويا مصارعا في وجه الخارج الأجنبي اي اسرائيل ومحترما من الأخ العربي. أدخلنا ميليس بارادة من مكلفيه الدوليين أو غير ارادة في عصر جديد هو عصر الاستقلال التنافسي على أنقاض عصر الاستقلال من أجل الاستقلال فقد انقضى في لبنان إلى غير رجعة الزمن الذي كان يكفي فيه هدم الخصم بأي وسيلة كانت ليكون النصر او مشينا على الأقل خطوات على هذا الطريق، كان ذلك ممكنا فعلا في الماضي وكثير من الشعوب استقلت لانها بلا تعاونها مع القوة الأكبر منها جعلت بقاء هذه القوة مستحيلا او مكلفا فوق ما تطيق كما كان قد ظهر في استقلال الهند على يد غاندي. لربما داخل فلسطين وعلى أرض لا يزال مكاناً لمثل هذا المنطق اي لا تعاون أما وقد قامت لنا نحن العرب بعامة دول ومؤسسات ووسائل وارتسمت امام مجتمعاتنا مهمات فليس شرا علينا أكبر من الاحجام عن اعتماد المقاييس التي بها نكون قد واجهنا واقعنا وعشنا عصرنا وهذا مبدئيا ما يفترض أن تكونه مهمة ميليس.ليس الفرنسيون ولا الامريكيون هم الذين صنعوا استقلال لبنان بل الذين صنعوا هذا الاستقلال هم أولا أبناؤه وقادته وهم اشقاؤه العرب، وما كان لبنان المستقل ليولد لولا التضحيات والشهداء ولولا القيادات التاريخية، ولولا تمسك اللبنانيين بكرامتهم ووحدتهم ودماء شهدائهم لما كان الاستقلال الذي قيل فيه انه يؤخذ ولا يعطى. كما أن هذا الاستقلال الذي هو صنيع اهله أولا واخيرا ويصونونه ببذل الأرواح اذا لزم الأمر ليس كما يتهمه البعض مشروع انعزال عن العالم او عن الشقيق العربي. ان العصر هو عصر العالمية أي العولمة الحميدة المختلفة 180 درجة عن العولمة الخبيثة فهذه ذل واشراك ينصبها الآخرون اما تلك فهي استزادة من اسباب القوة والتقدم والحضارة يحتاجها المؤمنون لتزويد استقلالهم بالقدرة على التفاعل مع معطيات العالم المتقدم والتسلح بقدراته حماية للذات ودخولا في العصر. إن أي قائل اليوم بصراحة أو مداورة بعدم التعامل ايجابيا مع مهمة ميليس هو صانع للهزيمة في وجه اعداء استقلالات الشعوب. لقد كان أول ما انكشف عند اغتيال الحريري أن لبنان هو بعد كل حساب جمهورية يرثها عبادها الصالحون وشرطها التجدد الدائم في الفكر والعمل بل إن هذه الجمهورية مطالبة بتجديد نفسها عن طريق الافادة مما راكمته سائر تجارب الآخرين. لاستقلال لبنان عام 1943 معنى خاص مختلف عن معنى الاستقلال عند الشعوب الأخرى لأن هذا الاستقلال هو الذي أعطى اللبنانيين هوية وطنية واحدة ولعلهم لولا الاتفاق عليها ما كانوا ليجدوا أنفسهم متفقين على أي شيء آخر فالاستقلال لم يعط اللبنانيين خروج الفرنسيين فقط بل اعطاهم القاعدة التي ما كانوا ليتفقوا على سواها بل ما كانوا يشعرون أنهم شعب واحد، واذا كانت الهوية الوطنية الواحدة هي التي صنعت الاستقلالات لشعوبها في بلدان أخرى فإن طلب الاستقلال هو الذي شكل للبنانيين الصيغة الأساسية لوحدتهم ولهويتهم فالقرار بالاستقلال هو نفسه القرار بالهوية الوطنية الموحدة. ولعلهم لولا هذا القرار لظلوا هويات تفتش عما يجمعها فلا تجده وربما وجدت عكسه مما يدفعها إلى التباعد تحت راية هويات ضيقة اما طائفية أو ايديولوجية مغلقة أو التحاقية بمراكز نفوذ لا يهمها الا استتباع الآخرين سواء كانت في الشرق أو في الغرب. هل كان ميليس ومن وراءه يعرفون هذه الحقيقة ومركزيتها في التكوين الوطني اللبناني عندما جعلوا كل شيء في مهمته يدور حول كلمة استقلال واشعاعاتها ومهماتها، مداواة الاستقلال تنقية الاستقلال تقوية الاستقلال، كلمات جاءت في تقرير ميليس فأطربت. لا رياض الصلح نفسه ولا بشارة الخوري ولا عبدالحميد كرامي ولا كميل شمعون لا بطاركة الموارنة ولا شيوخ المسلمين حتى ولا سبيرز نفسه السفير البريطاني في مغالاته الاستقلالية المعروفة للزكزكة للفرنسيين طمعا بوراثتهم لا أحد من هؤلاء ولا هؤلاء مجتمعين كانوا تفانوا حتى كادوا يفنون في التغزل بالاستقلالية اللبنانية كما فعل القاضي الألماني ميليس في قناعة ضميرية او حنكة تدبيرية أوكلتيهما على الأغلب وأي غزل راق علمي حقوقي حضاري ما سبقه فيه آخر. أحيا ميليس في جملة ما أحيا في نفوس اللبنانيين تلك الأيام الخوالي التي كان الشبان اللبنانيون من طلاب الجامعات والمدارس يذهبون إلى المحاكم ليسمعوا مرافعات بعض المحامين الكبار والقضاة المجلين بيانا ومضمونا فهي متعة قديمة كادوا ينسونها لولا ان جاء ميليس يحيي فيهم التشوق إلى أجواء الأداء الحقوقي الراقي فهو في اطلالاته على التلفزيون في أكثر من بلد كان دقيقا موحيا للثقة باعثا الأمل في قلوب مستمعيه بقدرته على النجاح في المهمة التي أوكلت اليه يزن كلماته ويدعو كل من حوله إلى التعاون معه من أجل الحقيقة هذه الحقيقة التي هتف لها اللبنانيون كثيرا في الشوارع والساحات ولكن ميليس وحده بعث الأمل بالوصول اليها في دوائر القرار الدولي بجديته وأمانته ودقته وخصوصا بقدرته على اعطاء الانطباع باخلاصه في طلب الحقيقة. إن النقطة العملية التي كانت وما زالت تقف في وجه الحل وتفرض نفسها على أشد المتحمسين ممن أقنعوا أنفسهم أو اقتنعوا بمسؤولية أناس من سورية معهم لبنانيون على الأغلب في اغتيال الحريري النقطة العملية هذه كيفية الفصل بين اتهام الجناة وعدم المساس بالكيان السوري العام والجمهورية السورية والكرامة السورية بالمطلق شكلت الموضوع الأكثر أمانة والأكثر جدية والأكثر فعالية اذ لا يجوز الاستمرار طويلا في ذلك الغموض البشع والإجرامي الذي يطال الجميع وكل مكان وكل انسان سوري. انه بقدر السرعة والوضوح في تحديد الجهة والأشخاص المشاركين في العمل دون غيرهم تكون مهمة ميليس قد نجحت دون ان يبقى شبح الاتهام مسلطا على سورية كسورية ودولتها كدولة. وليس هناك من عربي منصف أو غير عربي يرضى باستمرار الغموض والفوضى المحيطين بالموضوع حتى الآن، فلا الكرامة السورية ولا الكرامة اللبنانية ولا كرامة المؤسسة الدولية العامة تطيق استمرار الوضع كما هو ظلالا قاتمة تشمل أبرياء ودولا وسيادات وكرامات عليا وغير عليا دون دقة أمينة حقا ومخلصة حقا للمصلحة اللبنانية والكرامة السورية وحق الاخوة اللبنانية السورية في الاستمرار والبقاء في تعامل اخوي نقي من الشوائب وشرعي بمقاييس الاستقلال التنافسي الحر والمتفق مع المقاييس العالمية للاستقلال بين أخوين من حقهما بل من واجبهما ان يكونا واحدا أمام اسرائيل صادقين في عروبتيهما وغيورين على سيادة كل منهما.