لم يثبت بعد ما اذا كان ملف ايران النووي هو ملف عسكري يهدف الى انتاج أسلحة دمار شامل، بقدر ما لم يثبت كذلك أنه مشروع سلمي لأهداف بحت علمية. مع ذلك، تضع منطقة الشرق الأوسط، وحتى دول العالم كلها، يدها على قلبها بسبب «الحوار» الساخن المستمر منذ أعوام حول هذا الملف... تهديداً في حين بدخول المنطقة في سباق تسلح نووي، وفي حين آخر بفرض عقوبات دولية على ايران، ودائماً بنشوب حرب شاملة في المنطقة انطلاقاً من ايران أو بنتيجة مشروعها النووي. من هنا، فأي حديث عن «شرق أوسط خال من السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل»، كما هو الحال في مؤتمر مراجعة معاهدة حظر الانتشار النووي المنعقد حالياً في نيويورك، يقف عند حدود ما بات ثابتاً لدى العالم من أن اسرائيل هي الدولة النووية الوحيدة في المنطقة. واذا كانت مصر، بدعم من مجموعة دول عدم الانحياز والدول العربية، قد تولت على مدى عقود طرح هذه النقطة (خلو الشرق الأوسط من السلاح النووي) على جدول أعمال الوكالة الدولية للطاقة الذرية والجمعية العامة للأمم المتحدة، فمن غير المنطقي أن تكون ايران بين أكثر الدول «حيادية» ازاءها. على النقيض من ذلك، فلا تني القيادات الايرانية، في خطابها السياسي دفاعاً عن مشروعها النووي، تتحدث عن حقها في الحصول على الطاقة النووية، بدعوى شبه وحيدة هي موازنة حيازة اسرائيل هذه الطاقة وإنتاجها ما يقرب من مئتي قنبلة نووية ومثلها من أسلحة الدمار الشامل. فلماذا هذه المفارقة؟ بل ما الذي يجري عملياً على الأرض، وفي كواليس السياسة الاقليمية والدولية الحالية لايران، في هذا المجال؟!. غني عن البيان أن الوظيفة الفعلية للسلاح النووي، وأسلحة الدمار الشامل عموماً، لم تتجاوز منذ استخدامه الأولى للمرة (وآخر مرة، للآن على الأقل) ضد مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في أثناء الحرب العالمية الثانية، حدود الردع المتبادل بين الدول التي تمتلكه. وفي الواقع السياسي والحربي الدولي، فلهذا السبب تحول الصراع في العالم منذ ذلك التاريخ الى سلسلة من الحروب الباردة، السياسية والايديولوجية والاقتصادية والعلمية، التي انتصر فيها من انتصر وهزم من هزم من دون اختراق واحد لنظرية الردع المتبادل هذه. ولعل قصة «المواجهة النووية» بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي في خليج الخنازير في ستينات القرن الماضي، والتي لم تقع على رغم الحدة التي بلغتها، لا تزال في الذاكرة الجمعية لشعوب العالم حتى الآن. والسؤال هنا: هل هو «الردع المتبادل»، مع اسرائيل أو مع غيرها من دول العالم النووية، أم هو «الشرق الأوسط الخالي من أسلحة الدمار الشامل»، ما تحتاجه شعوب المنطقة ودولها في هذه المرحلة من تاريخها! بل، هل الدور والنفوذ الاقليميان، كما يريدهما النظام الحالي في ايران، لن يكونا متوافرين لها الآن، وبخاصة في المستقبل، الا من خلال امتلاك القدرة على انتاج مثل هذا السلاح؟! بعض ما يحمله خطاب ايران السياسي، حول مشروعها النووي وقدراتها الحربية من ناحية وحول موقفها من التسوية العربية – الاسرائيلية من ناحية ثانية، وبعض ما تحمله أوراق قدمت الى مؤتمر معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في نيويورك، يوفر في حده الأدنى جانباً من الاجابة المطلوبة عن السؤال. فلا تقول ايران الا أن برنامجها النووي سلمي بالكامل، لكنها تتعمد في الوقت ذاته احاطته بسرية تامة، وتدخل لهذا السبب في صراع مكشوف مع وكالة الطاقة الذرية والدول الخمس الكبرى لا يزال مستمراً منذ أعوام، على رغم العقوبات المفروضة عليها حتى الآن والتي يمكن أن تفرض عليها في المستقبل القريب. في المقابل، لا تقول ايران كذلك إلا أن ما تريده، على صعيد السلام في المنطقة، هو تحرير فلسطين التاريخية من البحر الى النهر، بل وحتى ازالة اسرائيل النووية هذه من الوجود، من دون النظر الى ما يمكن أن ينتجه ذلك من دمار (نووي، هذه المرة) يلحق بالشعب الفلسطيني أولاً وقبل كل شيء اضافة طبعاً الى شعوب المنطقة كلها بما فيها الشعب الايراني نفسه. في هذه الأثناء، تعلن الدول الخمس الكبرى التزامها تنفيذ القرار الذي اتخذته الدول الموقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في العام 1995 في شأن اقامة «شرق أوسط خال من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل»، لكنها ترفقه بورقة أميركية – روسية مشتركة تربط فيها بين التنفيذ الكامل للقرار والدفع بالمنطقة باتجاه الوصول الى تسوية عربية – اسرائيلية من جهة، وفلسطينية – اسرائيلية من جهة ثانية، تقوم بنتيجتها دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للعيش جنباً الى جنب مع دولة اسرائيل. فأين تكمن المشكلة اذا؟ هل هي في السلاح النووي الذي تملكه اسرائيل من دون غيرها من دول المنطقة، وتريد ايران تالياً موازنته بسلاح مماثل، أم أنها في التسوية السلمية التي تؤدي في نهاية المطاف الى استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه وإقامة دولته المستقلة على أرضه المحتلة منذ سنوات عدة؟! قد يقال ان كلاماً من هذا النوع، عن السلام في المنطقة وإنشاء الدولة الفلسطينية وعن اقامة «شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل»، تردد على ألسنة الدول الكبرى في العالم أكثر من مرة في الماضي ولكن من دون أية نتيجة. وقد يقال أكثر، ان ستين عاماً من الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية وللأراضي العربية الأخرى لم تؤد في الواقع إلا الى خسارة المزيد من الأرض والحقوق والدماء، فضلاً عن ابتعاد السلام ذاته وضياع حتى الحلم به بين ثنايا الصلف الاسرائيلي المتصاعد في جانب والوهن العربي المغرق في التنازل في جانب آخر. وقد يكون ذلك صحيحاً الى هذا الحد أو ذاك، إلا أن ما يبدو مؤكداً، وتشير اليه الوقائع على الأرض بوضوح، هو أن الحقيقة السياسية الايرانية (والنووية، هذه المرة أيضاً) تقع في مكان آخر مختلف تماماً. الحقيقة التي تقول ان ايران تسعى لامتلاك الطاقة النووية، سلمية كانت أم حربية، على طريق مد نفوذها وهيمنتها في المنطقة... دولة اقليمية كبرى، في موازاة اسرائيل والى جانبها من ناحية، ولكن تجسيداً من ناحية ثانية للوظيفة الفعلية للسلاح النووي في العالم منذ هيروشيما وناغازاكي (الردع المتبادل حربياً، والحروب الباردة سياسياً) وليس أية وظيفة أخرى. * كاتب لبناني.