في مواجهتي تهبط فتيات سريعاً، كزهور تتدحرج على حافة الماء، ومن خلفي عائلة تتقدم... طفلان وأب. أنظر إلى خفة من يهبط ومن يصعد، وهم يرمون الرجل الظل بابتسامات مليئة بالشفقة والعطف. أستند على الجدران، فقد وصلت آلام الظهر قمتها، رائحة الموتى في هذه الجزيرة تخترق مسام يدي، فأنزعها بسرعة وأحاول أن أجلس، على الكرسي الذي أحمله معي دائماً وهو هدية زوجتي في عيد ميلادي الثمانين، أي أحمله ما يناهز عشر سنوات معي كلما خرجت. بالفعل جلست ونظرت إلى المرأة/ الوردة التي كانت تقطف ورقة نعناع من زهورها في الشرفة المحتلة بالألوان لزهور عدّة، كانت السماء تلمس نهديها البضّين بلا حجاب، وكانت ابتسامتها كزهرة أوركيد ترقص فرحاً. أشارت بيدها إليَّ، وأشرتُ إليها بتحية معهودة حيث أنزلتُ قبعتي على صدري وأحنيتُ رأسي قليلاً للأسفل. كان في نهديْ المرأة شيء ينادي كل العمر الفائت، فنظرت إلى السماء، وهمست بكلماتٍ إلى السماء. وكأن المرأة الوردة قد سمعت ما همستُ به، فقالت بصوت فيه غنج خجول: «نهدان من حياة وما أسفل هو الموت أيها العجوز المكير»، ثم دخلت وتعالت رائحة الأسماك في الشارع، فقد حان وقت غداء الظهيرة، بكل خجل وإعجاب داخلي غامض من كلامها وقفتُ وحاولتُ إتمامَ السَّير. كنت أحسب الوقت برائحة القهوة، فعندما ينتصف النهار تكون قهوة الظهيرة، والسماء مثلي تدرك الوقت برائحة القهوة، وإذا قرب المساء كانت القهوة التمهيدية، أما إذا حلَّت الساعة السابعة ونصف وحتى الثامنة ونصف تكون قهوة الليل قد حان وقتها بعد كل عشاء، وأنا هنا أتمنى الوصول إلى البحر قبل القهوة التمهيدية. يرنُّ هاتفي وأدرك أنها زوجتي، فلا أحد في العالم يستخدم رقم هاتفي سوى زوجتي، وأعتقد أن شركات المحمول تكره العجائز لأنهم لا يستخدمون بضاعتهم كالشباب أو الأطفال، يرن الهاتف وأجيب ولا أسمع صوت زوجتي ولكني أسمع صوت البحر والجنون، فأجيب بكلمة واحدة: «أنا في الطريق... سأصل بعد قليل». الشارع اللعين الجميل، منازله متراصة كأسنان شاب فتي، قوي، كلها متساوية، ناصعة اللون، الشرفات كلها بها الزهور ولكنها ليست بجمال شرفة المرأة الوردة، ولا أعتقد أن نهود النساء بتلك الشرفات تستطيع مراهنة نهدي المرأة/ الوردة على أي شيء، لأنهن سيخسرن حتماً. مرَّ الوقت، وقمة الشارع بعيدة، فأنظر خلفي وأجد الهبوط كالجبل، وكأن الشارع طار من مكانه وأصبح خطاً معلقاً في الهواء، تقترب رائحة المرأة الوردة من خلفي، أو بالأصح تقترب رائحة نهديها التي فاقت رائحة القهوة، فتمسك بذراعي، وتنظر في عيني وتفرغ كلماتها كالرصاصة في رأسي: «سأصطحبك إلى البحر... أنا أعرفك وأعرف زوجتك. رأيتُك منذ يومين في البار وكان الحديث بينكما عن الحرب، فهل ذهبتَ إلى الحرب؟». «كيف لهذين النهدين الحديث عن الحرب، كيف لهما أن يسمحا للمرأة بالتفكير في الحرب ولعنتها؟» هكذا سألتُها. «الحرب والنهدان سواء بسواء يا شيخي الأجمل هذا النهار»، هكذا أجابت وزادت حيرتي، فضحكت بصوت عالٍ، أربك رجلاً كان يسير مع زوجته القبيحة ذات الجسد الفارع، ثم مالت على وجهي وهمست: «سأهبك رائحةً لن تنساها ما حييت، ومهما نال منك الكبر. ابتلع الرائحة في صدرك واكتمْها، وإذا جاء الليل وكنت وحدك أخرجها فستعرف بعدها أن الحرب قد انتهت وأن تلك الرائحة الجديدة هي الحرب الأجمل... هل تفهم؟». أومأتُ برأسي متفقاً معها في الرأي. «أنت جميل وذكي يا شيخي. ابتلع الرائحة ولا تخف». أكملت حديثها ثم صمتت، وغاصت في الرائحة كالطفل على رغم رنين الهاتف. أمطرت السماء، وسميت ذلك المطر مطر الغيرة فضحكت وقالت: «المسافة بين الحقيقة والكذب تكفي لإعلان الحرب». فقلت: «لستُ إلا بعضاً منكِ، فدعيني أجد اكتمالي بكِ، أو اتركيني أكمل ضياعي اللانهائي وحدي. في وجنتيكِ غمازتان أم هلاك مدبر؟ وهل ابتسامتُكِ أُنْس للسحرة أم مؤامرة للحب؟ كلما تأملت هاتين الشفتين أدركت موتي فيهما، فلا تبحثي عن كفني وفقط أطبقي علي بهما حتى أموت سعيداً». أجابت: «ربما في الجهة المقابلة من النهر تسكن روحك، فاسبح نحوها في سلام». همست لها: «أصحو فأجد الصمت يرتشف قهوته على مهل، فأجلس بجانبه نبحث معاً عن رائحة الكلمات وسط رقصة الدخان التي تتصاعد من أيدينا وأفواهنا». ثم سألتها: «كم من الطلقات تكفي لقتل الأشرار؟». قالت: «وردة تكفي لذبح الشر». «الوردة اغتصبوا رائحتها، هكذا عقبتُ بغضب. فقالت: «الوردة... هل تفهم؟ أم تودّ النواح؟». فعرفت أنها تتخذ من الوردة صديقاً، تلجأ إليه في السَّراء والضرَّاء، تركتها ورحت أبحث عن الوردة/ الصديق في ظلي وفي الشارع الذي تراقبه السماء بحذر، ولا أعرف إن كانت تلك اللحظة هي نهايتي الحقيقية أم هي نهايتي التي أرغب فيها حقاً، ولا أعرف أيضاً هل ستنتظرني زوجتي على البحر إلى الأبد؟