فتح استمرار الشغور في سدة رئاسة الجمهورية في لبنان الباب أمام تعدد الاجتهادات الدستورية التي يغلب عليها الطابع السياسي، في محاولة لتبرير غياب كتل نيابية عن جلسات انتخاب الرئيس التي يدعو إليها رئيس المجلس النيابي نبيه بري، بذريعة أن غيابها هو نوع من أنواع الامتناع عن التصويت، كما يقول الرئيس حسين الحسيني، ومن قبله الأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله الذي يؤكد باستمرار أن غياب النواب حق دستوري وأن لا نصوص في الدستور تلزمهم حضور جلسات الانتخاب. ومع أن المادتين 39 و40 من الدستور اللبناني لا تتطرقان إلى مقاطعة النواب الجلسات الانتخابية وغير الانتخابية وإنما إلى عدم إقامة دعوى جزائية على أي عضو من أعضاء المجلس بسبب الأفكار والآراء التي يبديها مدة نيابته وإلى عدم اتخاذ إجراءات جزائية بحق أي عضو من أعضاء المجلس أو إلقاء القبض عليه إذا اقترف جرماً جزائياً إلا بإذن المجلس ما خلا حالة التلبس بالجريمة (الجرم المشهود)، فإن المواد الأخرى في الدستور لا تأتي على حقه في الغياب عن جلسة انتخاب الرئيس. لذلك، فإن غياب النواب عن جلسة انتخاب الرئيس يعتبر - كما يقول مصدر نيابي بارز ل «الحياة» - سابقة لم تكن قائمة من قبل لأن النواب اعتادوا على حضور مثل هذه الجلسات وبالتالي لم يكن في بال المشرع وضع نص يتعلق بإلزامية الحضور. ويقول المصدر نفسه إن نصرالله ينطلق من قوله أن لا شيء يلزم النواب حضور جلسات الانتخاب، من «كيدية» سياسية، خصوصاً أنه ربط حضورهم بانتخاب حليفه رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، من دون أن يدعم قوله هذا بأي نص دستوري. ويسأل المصدر عينه: «كيف يمكن تأمين انتظام المؤسسات الدستورية في ظل تعطيل جلسات انتخاب الرئيس وأين يصرف هذا التعطيل في الحفاظ على الشراكة بين الطوائف والمذاهب اللبنانية، وماذا سنقول للموارنة في ظل الامتناع عن حضور الجلسات على رغم أن البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي يدعو النواب باستمرار إلى النزول إلى البرلمان لانتخاب الرئيس؟». كما يسأل أيضاً عن الأضرار السياسية المترتبة على النظام اللبناني ومشروع الدولة جراء تعطيل انتخاب الرئيس، وعن من يتحمل مسؤولية التداعيات السياسية الناجمة عن التمديد للشغور في الرئاسة الأولى، وفي طليعتها تغييب الموارنة عن المشاركة في السلطة، وهل أوجد اتفاق الطائف لابتداع اجتهادات من هنا وهناك لتبرير إضعاف الشراكة المسيحية في السلطة مع أن من يدقق في هذا الاتفاق لا يلحظ هذا الجنوح الذي هو أقرب إلى الهرطقة في تفسير الدستور؟». ويلفت المصدر النيابي إلى أن تعطيل انتخاب الرئيس يدفع في اتجاه إلغاء التعددية الطوائفية التي يقوم عليها النظام اللبناني ويتعارض مع مبدأ تداول السلطات. ويقول إن «ما نشهده اليوم من اجتهادات في تفسير الدستور سيؤدي حتماً إلى انحلال الدولة بكل مؤسساتها إضافة إلى تراجع مشروع الدولة الذي يفترض أن يكون الجامع الوحيد للبنانيين تحت سقفه». نحر الطائف ويؤكد أيضاً أن ربط نصرالله النزول إلى البرلمان بانتخاب حليفه عون رئيساً للجمهورية يتعارض، ليس مع الديموقراطية فحسب، وإنما مع إصراره على تمسكه باتفاق الطائف. وإلا كيف يمكنه الدفاع عن مقولته هذه في الوقت الذي «يشرع» مقاطعته لجلسات الانتخاب والعودة عنها بشروطه». ويرى أن موقف نصرالله يسهم في نحر الطائف ويوفر الذريعة للذين يعارضونه ويطالبون بإلغائه وإنما تحت بند ضرورة إعادة النظر فيه لتعديله. ويتوجه المصدر النيابي بسؤال إلى نصرالله عن رد فعله في حال انسحب تعطيل جلسات الانتخاب على السلطتين التشريعية والتنفيذية، وهل يقبل لغيره ما يجيزه لنفسه، مع أنهما ترزحان حالياً تحت وطأة التعطيل والشلل على رغم المحاولات الخجولة لإعادة الروح إليها سواء من خلال إعادة فتح باب البرلمان أمام التشريع أم العمل على تفعيل مجلس الوزراء بعد أن افتقد الإنتاجية بسبب صرف النظر عن حق رئيسه بممارسة صلاحياته والإجازة لأي وزير حق النقض في أي قرار يصدر عنه ما لم يوافق عليه. ماذا لو تأخر انتخاب رئيس البرلمان؟ وفي هذا السياق يسأل المصدر النيابي ما إذا كان يحق للنواب الغياب عن جلسة انتخاب رئيس البرلمان وأعضاء هيئة مكتبه فور انتخاب مجلس نيابي جديد. وذلك على غرار الحق «الممنوح» لهم بمقاطعة جلسات انتخاب الرئيس أو التغيب عنها كما هو حاصل الآن؟ وبكلام آخر يرى المصدر نفسه أن انتخاب مجلس نيابي جديد يستدعي فوراً انتخاب رئيسه وأعضاء هيئة مكتب البرلمان، في جلسة يدعى إليها النواب ويرأسها النائب الأكبر سناً. ويضيف: لو افترضنا أن أكثر من نصف أعضاء البرلمان توافقوا على مقاطعة جلسة الانتخاب هذه أو تغيبوا عنها لاعتبارات سياسية. فهل يلتئم لانتخاب رئيس مجلس جديد أم تؤجل الجلسة إلى حين تأمين النصاب القانوني لانعقادها؟». ويتابع: «أما في حال تكرر المشهد النيابي نفسه بسبب مقاطعة الأكثرية لهذه الجلسة، ماذا سيكون رد فعل الثنائي الشيعي، وكيف يمكن البرلمان أن يباشر صلاحياته في غياب رئيسه، وهل يكون البديل «تنصيب» النائب الأكبر سناً رئيساً للبرلمان، ومن سيكون في مقدوره توفير الغطاء السياسي «لهرطقة» دستورية من العيار الثقيل من شأنها أن تطيح مبدأ الشراكة الوطنية وتدفع البلد في اتجاه الذهاب بعيداً، ليس في خرق الدستور وإنما في تنظيم انقلابات على انتظام عمل المؤسسات الدستورية تحدث خللاً في توزيع السلطات؟». ويرى المصدر نفسه أن اللعب بنسيج الشراكة الوطنية يشكل خطراً، ليس على انتظام الحياة السياسية، وإنما أيضاً على دور المؤسسات الدستورية وإشعار فريق بالغبن والظلم، خصوصاً أن البرلمان في ظل تعذر انتخاب رئيسه سيبقى مشلولاً كما هو حاصل مع استمرار الشغور في الرئاسة التي تلعب الدور الأول في رعاية مبدأ الفصل بين السلطات. هل من حاجة لتفسير الدستور؟ ويلفت إلى أن استحضار استحالة انتخاب رئيس للمجلس بسبب تعذر تأمين النصاب القانوني لانتخابه لا يستهدف الرئيس نبيه بري الذي يلزم كتلته النيابية بحضور جلسات الانتخاب، وإنما طرح هذه المسألة من زاوية قطع الطريق على من يحاول تفسير الدستور على قياسه، ويقول إن الوزير بطرس حرب كان محقاً في مطالبته باعتبار النائب الذي يغيب ثلاث مرات متتالية عن الجلسات بحكم المستقيل وأيضاً في بقاء الرئيس في سدة الرئاسة الأولى في حال انتهت ولايته ولم ينتخب البرلمان رئيس جمهورية جديداً. ويعتبر المصدر النيابي أن الوزير حرب ليس في وارد ابتداع نصوص دستورية جديدة بمقدار ما أنه يتطلع إلى تقييد النائب للقيام بواجبه في انتخاب الرئيس أو في حضور جلسات التشريع، وبالتالي فإن طرحه يشكل عامل ضغط لتأمين انتظام عمل المؤسسات. وعليه يسأل ما إذا كنا في حاجة لإعادة تفسير الدستور لوقف سيل «الاجتهادات» التي من شأنها أن تبرر تعطيل الانتخاب وصولاً إلى إقحام البلد في فراغ مميت لا تعوضه معاودة البرلمان إلى التشريع أو البحث في كيفية تفعيل العمل الحكومي، خصوصاً أن تعذر انتخاب الرئيس يعيق الحضور اللبناني في المجتمع الدولي ويدفع لبنان إلى حافة الانهيار، باعتراف معظم الأطراف الفاعلين؟ ويقترح المصدر دعوة البرلمان إلى عقد جلسة نيابية تخصص لتفسير الدستور لوقف اللعب بنصوصه ومن ثم العبث بروحيته مع شعور الموارنة أو إشعارهم بأنهم الحلقة الأضعف في التركيبة السياسية الحاكمة وأن البلد يمكن أن يتدبر أموره في غياب رئيسه. ويعتقد المصدر النيابي أن التجربة المريرة التي يمر فيها البلد باتت تستدعي وضع ضوابط لمنع تعطيل جلسة الانتخاب أو لتفسير آلية انتقال صلاحيات الرئاسة بالوكالة إلى مجلس الوزراء التي اتخذ منها البعض ذريعة لتعطيل دور الحكومة بعد أن أخضع تفسير هذه الآلية إلى اعتبارات شخصية يراد منها الضغط للتسليم بانتخاب عون أو الرضوخ لتعطيل الأمر الواقع. هل من رهان على العامل السوري؟ أما بالنسبة إلى ما يتردد حالياً في لبنان من أن الرئاسة فيه باتت معلقة على حبال التطورات العسكرية في سورية وأن انتخاب الرئيس مؤجل إلى ما بعد ظهور الملامح الرئيسة لتبدل الواقع العسكري على الأرض لمصلحة النظام في سورية الذي يخوض الآن حربه ضد حلب وريفها بدعم ميداني من إيران وحليفه «حزب الله» وبغطاء جوي روسي، فإن مصادر تعتبر أن خطورة ما يجري حالياً في سورية يكمن في تعميق الاحتقان المذهبي والطائفي الذي ستكون له ارتداداته على الداخل في لبنان وبالتالي فإن توظيف قدرة بشار الأسد على حسم الحرب هذه في الصراع المحلي بغية إحداث تغيير في قواعد اللعبة سيصطدم برفض لبناني دولي - إقليمي من جهة وبإصرار على التوازن في المعادلة السياسية من جهة ثانية. وتؤكد المصادر أن الغطاء الجوي الذي توفره روسيا للنظام السوري وحلفائه لم يعد يشكل حرباً ضد الإرهاب والتطرف وإنما أصبح يهدد التركيبة الديموغرافية لسورية وينذر بإحداث فرز سكاني، لذلك فإن من يراهن على المجيء برئيس للبنان على قياس الوضع المستجد في سورية، سيكون أشبه بالتعيين لأنه سيشعر فريقاً كبيراً من اللبنانيين بالإذعان ومن ثم بالاستسلام وهذا ما يطيح صيغة العيش المشترك مع أن تحقيقه يبقى مستحيلاً لأن تجارب الاستقواء بالخارج كما حصل في السابق لم تكن مشجعة وأوصلت البلد إلى نزاعات داخلية.