التقيته لأول مرة ذات مساء من خريف 1979. كان ذلك في حديقة منزله في شمال لندن، وكان اول ما لفتني فيه حماسه عند الحديث عن القضايا العربية، الذي لا ينتظره المرء من اكاديمي غربي كان يتابع ابحاثه في ذلك الوقت في «معهد الدراسات الشرقية والافريقية» التابع لجامعة لندن. لكن هاليداي كان عائداً من تغطية الثورات، من ظفار واثيوبيا الى اليمن الجنوبي، وكان مغرماً بقدرة هذه الحركات على تغيير الانظمة، كما كان يعتقد. كانت المنطقة تعج بالحديث عن الثورة الايرانية، وكان اسم فريد هاليداي قادماً الى ذهني من مقالات كان يكتبها في ذلك الوقت في مطبوعات لبنانية محسوبة على احزاب اليسار. وكان طبيعياً أن يدور الحوار الاول بيننا عن الحدث الايراني، وكان ذلك اساساً لمادة تحليلية نشرتها آنذاك في مجلة «المجلة» حيث كنت أعمل. اعتقد هاليداي، كما اعتقد كثيرون من اليساريين العرب، أن الثورة الايرانية ستكون مفتاح «الانفجار الكبير» ضد الطغيان والانظمة التوتاليتارية. لذلك لم يتردد في ان يطلق عليها اسم «الثورة الحمراء». فقد كان متعاطفاً، بل كان يفاخر بأن كتابه «ايران، الديكتاتورية والتطور»، الذي نشره قبل قيام الثورة بعام واحد كان مؤشراً واضحاً الى اين تتجه الامور. لكن، وعلى رغم هذا التعاطف الواضح، ظل هاليداي دقيقاً في تحليله، قادراً على التمييز بين الموقف الشخصي والرؤية المبنية على فهمه الواقعي لتطور الامور. لذلك لم يتأخر في اعلان طلاقه مع الافكار الاولى التي حملها عن بدايات الثورة الايرانية. كان ذلك مع نشوب الحرب العراقية - الايرانية، وظل يعتبر بعد ذلك ان ثورة الخميني كانت مسؤولة بدرجة كبيرة عن الانشقاق الذي حصل في صفوف المسلمين. وفي كتابه المهم «الاسلام ووهم المواجهة» الذي صدر عام 1996 واعتُبر رداً على نظرية «صراع الحضارات»، وجد هاليداي ان حديث الخميني عن «الامة الاسلامية الواحدة» لم يعُد متفقاً مع السلوك اليومي للثورة الايرانية بعد تحولها الى نظام حكم، وهو ما نتجت عنه الخلافات الكبيرة المذهبية داخل الصف الاسلامي، كما العرقية والعصبية، مثل احياء النزعة القومية بين الفرس والعرب. يعكس التحول في افكار فريد هاليداي على مدى ثلاثين سنة الى حد بعيد التحول الذي طرأ على قناعات الكثيرين في منطقتنا، بسبب حال التخلف التي بتنا نعاني من نتائجها. لم يكن الرجل دوغماتياً، بالمعنى الاكاديمي، بل كان قريباً من الهم اليومي للمنطقة التي ظل يتابع ابحاثه حولها، حتى لتحسبه احياناً، من فرط حماسه لهمومها وقضاياها، وكأنه واحد من ابنائها، تسعفه على ذلك لغة عربية ينطقها بذلك الصوت الاجش واللكنة الارلندية التي لم تغادره، رغم كونه خريج جامعة اوكسفورد. هكذا انتهى ذلك «اليساري» الذي عرفته لأول مرة قبل ما يقارب الثلاثة عقود، وكنت اصارع معه باستمرار في ذلك الوقت حول المدى المتاح لنشر مواقفه وآرائه، انتهى مدافعاً عن الاحتلال الاميركي للعراق وعن تدخل اميركا في افغانستان. بات يعتبر ان اكبر مصيبة حلّت بالعرب هي ذلك الميل شبه الغريزي لدى العامة بينهم الى دعم انظمة توتاليتارية، قامعة للحريات، بحجة انها تحارب الامبريالية والاستعمار! ففي رأيه ان الاثر الذي يمكن ان يتركه تدخل الامبريالية والرأسمالية في بعض مناطق العالم يمكن ان يكون قوة تساعد على التقدم، على عكس ما تفعله الانظمة القائمة. هكذا اعتبر الغزو الاميركي للعراق أهون شراً من بقاء صدام في الحكم. بعد هجمات 11 سبتمبر برز فريد هاليداي كواحد من أشد الاكاديميين الغربيين دفاعاً عن الاسلام وما تعرض له من حملات. كان يكرر في محاضراته ان الصورة الجامدة التي يقدمها اعداء الاسلام الذين يحملون افكاراً متطرفة ضد المسلمين هي صورة خاطئة لا تعكس حقيقة التنوع الكبير والغني في التاريخ الاسلامي. من هنا كان كتابه «ساعتان هزتا العالم» (2001) رداً على تلك الافكار والحملات وتحديداً على الضجة التي اثارها صمويل هنتنغتون. كان رأي هاليداي انه اذا كان من تهديد للغرب فانه لا يأتي من العالم الاسلامي، بل من القوى الاقتصادية الآسيوية الناهضة. كان لقائي الاخير بفريد هاليداي قبل مغادرته الى ليشبونة قبل سنتين ليعمل استاذاً للعلوم السياسية في «معهد برشلونة للدراسات الدولية». التقينا في المطعم المجاور ل «كلية لندن للاقتصاد»، احد اهم معاهد العلوم السياسية في العالم، حيث كان يدرّس. قال لي، ربما تحبباً، انه يشعر ان اقامته في برشلونة على شاطيء المتوسط ستعوّضه عن بيروت التي احبها لكن لم يتح له ان يعيش فيها. كنت اعتقد انه تعافى من مرضه، لكنني عرفت تقدم المرض عندما حاولنا اشراكه في العرض السنوي للاحداث الذي كنا نعدّ له في «الحياة». اعتذر قائلاً: لم أعد كما كنت تعرفني!