أوضح رئيس اتحاد الكتاب السودانيين عالم عباس أن أهل السياسة يتعاملون مع الآني المادي بلغة المصالح الناجزة ومع المتغيرات، وأهل الثقافة يتعاملون مع المثالي والراسخ ومع الثوابت مشيراً إلى أن لغة ميكافيلي في السياسة لا تصلح مع أهل الثقافة، وأن شهوة الحكم وحب السلطة من صفات السياسي، وأقل منها عند الثقافي. ولا يؤمن عباس بالفراغات التي تنشأ عن موت أحد من الأدباء، لكنه يعتقد أن الطيب صالح ترك فقداً كبيراً في المشهد الروائي العالمي كله وليس العربي والسوداني فقط. أصدر عباس رئيس اتحاد الكتاب والأدباء السودانيين عدداً من الكتب والدواوين الشعرية ومنها: «إيقاعات الزمن الجامح» و «منك المعاني ومنا النشيد» «وأشجار الأسئلة الكبرى» و «من شمس المعشوق إلى قمر العاشق» و «محمود درويش والبحث عن لغة جديدة». «الحياة» التقته على شاطئ البحر الأحمر في مدينة جدة، وحاورته حول جملة من المواضيع الثقافية والأدبية. إلى نص الحوار: هل تعتقد أن الثقافة تُصلح ما تفسده السياسة؟ - السلام والإصلاح هما الأصل، الفساد طارئ تنبغي مقاومته، وهذا هو جوهر عمل الثقافة، وعمل السياسة أيضاً. الفساد يأتي من جرّاء الممارسات السياسية وليست من السياسة والتي هي: (فَنُّ إدارة شؤون الناس بما يصلحهم). لماذا إذاً نجد أحياناً أن الثقافة والسياسة على طرفي نقيض وهما في الأصل متكاملان؟ أهل السياسة يتعاملون مع الآني المادي بلغة المصالح الناجزة ومع المتغيرات، وأهل الثقافة يتعاملون مع المثالي والراسخ ومع الثوابت، لغة ميكافيلي في السياسة لا تصلح مع أهل الثقافة. شهوة الحكم وحب السلطة من صفات السياسي، وأقل منها عند الثقافي. الثقافة ضمير الأمة وعقلها. والسياسة حاجات الأمة ومعيشتها. وبينا يرى أهل الثقافة أن حاجات الأمة يمكن إشباعها عبر الضمير والعقل أولاً، فقد يرى السياسي أن الضمير والعقل يأتيان بعد إشباع تلك الحاجات، وينتج الخلل حين لا يتم التوازن بين هذه الأولويات فتأتي المفاسد عن طريق الاستغراق في الشهوات والرغبات، وفي بلداننا المتخلفة الساسة يقودون الثقافة، لكن في البلدان المتقدمة الثقافة تقود السياسة، وحتى ينصلح الحال عندنا تظلُّ ممارسة السياسة يطغى عليها الفساد (الا من عصم ربك)! كيف تقوم تجربتك في رئاسة اتحاد الكتاب السودانيين؟ - أولاً تأسس الاتحاد في العام 1986 وتمّ حظره عند قيام الانقلاب العسكري عام 1989 ولم يعاود نشاطه إلّا عام 2006 في ميلاده الثاني بعد اتفاق السلام الشامل عام 2005 بعد تعديل الدستور. وقد سبقني في رئاسة هذا الاتحاد أسماء ضخمة ذوو إسهامات مشهودة في مسيرة الثقافة السودانية من أمثال جمال محمد أحمد، علي المك، محمد سعيد القدال، يوسف فضل حسن، إبراهيم اسحق، كمال الجزولي، محمد جلال هاشم وغيرهم من الأسماء التي رسخت أقدام هذا الاتحاد وصنعت له تاريخاً ومجداً. ونحن استمرارٌ لهذه الكوكبة مستندين على هذا الإرث الضخم والفهم لأحوال وطننا السودان بظروفه المتغيرة وسط العواصف السياسية والتقلبات المختلفة، وأظن أن أداءنا كان مقنعاً، إذ إن الجمعية العمومية وافقت بالإجماع على تكليفنا لدورة ثانية في رئاسة الاتحاد، وعسى أن نكون بمقدار تلك الثقة. يوجد اتحاد آخر في السودان وهو اتحاد الكتاب والأدباء السودانيين هل هو تحت مظلتكم؟ - لا هذا اتحاد أنشأته الحكومة في العام 2005 وهو العام الذي كانت فيه الخرطوم عاصمة للثقافة العربية ويترأسه الفريق عمر قدور، واتحادنا أعرق وأغزر تجربةً، وأكثر عضويةً وفاعلية. وهل تسعون في الاتحاد الى احتواء كل الأطياف الأدبية بمختلف توجهاتها وأديانها؟ - بالتأكيد وهذا عنصر أساسي في عملنا، ذلك أن نظامنا الأساسي الذي نهتدي به قد بيَّنَه في ديباجته بأقوى وأوضح العبارات. وعمل الاتحاد وإنجازاته عبر حلقات متصلة، ربما ينشأ برنامج في دورة من دورات اللجنة التنفيذية وتكتمل في الدورات التي تليها وقد أكملنا برامج كانت أُعِدَّتْ في دورات سابقة وخططنا لأخرى بدأناها وأنجزنا بعضها، وسَتُكْمَل في الدورات التالية وهكذا. هل تعتقد أن رحيل الروائي الكبير الطيب صالح ترك فراغاً في المشهد الروائي العربي والسوداني بخاصة؟ وهل هناك أسماء من السودان لافتة اليوم تتنبأ بتقديمها تجربة تتفوق على تجربة الطيب الروائية؟ - الطيب صالح فقدٌ كبير في المشهد الروائي العالمي كله وليس العربي والسوداني فقط، شخصياً لا أؤمن بالفراغات التي تنشأ عن موت أحد، فالحياة تمضي و(حواء ولود)، كما نقول في السودان. الطيب صالح صنع للرواية السودانية، والعربية، مجداً، وخلّف تراثاً عظيما خالداً وقال كلمته ومضى. ربما كان بضوئه المبهر يُعشي الأبصار عن أن ترى الكثير من الأسماء التي تكتب بإبهار وقدرة، وبضجيجٍ أقل. ولعل الجدير بالقول في هذا اللقاء ان مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي في امدرمان، ينظم سنوياً، مسابقة باسم جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي وهي الآن في سنتها السادسة، حيث قدمت عشرات الروايات وأبرزت العديد من الروائيين مما سيكون لهم شأن عظيم في هذا الفن، إن أول من يُذْكَرُ من الروائيين السودانيين، بعد الطيب صالح مباشرة، هو الروائي العظيم إبراهيم اسحق إبراهيم وعيسى الحلو واللذان بلغا شأناً عالياً في هذا الفن، ولم يلتفت بعد لإبداعهما المميز الكثير من العرب. إن أسماءَ مثل أمير تاج السر، وعبدالعزيز بركة، ومنصور الصويم، وأحمد الرفاعي، ويعقوب بدر، ومحمد خير عبدالله، وأحمد المك، وأسامة عبد الحفيظ، وأحمد العطا وكثيرون غيرهم، يبشرون بأعمال عظيمة، لو توفر لهم الناشر الحصيف الحاذق، سيما وهم أبناء بيئات تمتاز بالثراء، والتنوع والإدهاش. هل تعتقد أن الشعر الغنائي لا يزال يسيطر على الشعر العربي الحديث، في ظل التحولات التي حدثت لكثير من الشعراء العرب والانكفاء على الذات واليومي المعاش، وهذا يقودني أيضاً إلى سؤالك عن قصيدة النثر والاعتراف بها كجنس أدبي جديد؟ - الشعر أصله غنائي، منذ ما قبل صناجة العرب، صنع لينشد ويغنّى. ولعل أهل الغناء كانوا مرآة الشاعر في ضبط أشعاره وتخليصها، ربما من الإقواء والزحافات والعلل، كما يروى. ولعل كتاب الأغاني للأصفهاني به ما يسند هذا الزعم. ثمّ أليس الشعر هو ديوان العرب، والمعبّر الحقيقي عن حالهم؟ فشعرهم اليوم حالهم في الواقع. العرب اليوم أمة تقتات على ماضيها، وتنام على خدرٍ، تحلم بالمستقبل الزاهي الذي يتشكل من تلقاء نفسه دون أن تساهم فيه ولو بصنع إبرة، وأنا أعترض على تسمية قصيدة النثر منذ المبتدأ فعندي القصيدة قصيدة، والنثر نثر، والتسمية مشكل، وقد بدأت في منتصف القرن الماضي في اجتهادات أنسي الحاج ومحمد الماغوط وجماعة مجلة شعر، أدونيس ويوسف الخال وسعدي يوسف وغيرهم، وحتى محمود درويش. الكثير من شعرائنا في السودان، والشباب بخاصة، يكتبون هذه القصيدة بامتياز وكتابتها ليست سهلة كما قد تبدو ظاهرياً، بل هي غاية في التعقيد. كيف تقرأ المشهد الثقافي في السعودية وهل أنت على تواصل مع بعض المبدعين السعوديين؟ ومن من الأسماء تبهجك؟ - عشت في السعودية لعقدين من الزمان وقرأت لكثير من مبدعيها وافتتنت بكتاباتهم، منذ عبد القدوس الأنصاري وطاهر زمخشري (بابا طاهر) ومحمد حسين زيدان وعلامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر وتمتعت بأسلوب أبي تراب الظاهري ودقائقه اللغوية وتابعت من بعد جسارة عبدالله الغذامي ابتداءً من كتابه «الخطيئة والتكفير»، ومروراً بكتاباته الجريئة، «حكاية الحداثة»، و»المرأة واللغة»، إلى «تأنيث القصيدة والقارئ المختلف». اطّلعت على أعمال شعراء كثيرين وروائيين مثل محمد الثبيتي وعبدالله الخشرمي ومحمد حسن علوان وغازي القصيبي، وتركي الحمد والكاتب الأشهر صاحب مدن الملح عبدالرحمن منيف والمعروف على نطاق واسع.