لا يحتاج الحديث عن الشاعر الراحل محمد الثبيتي إلى مناسبة، واستعادة ذكرى رحيله أو إحياؤها ليس القصد من ورائها قطعاً التأكيد على شاعرية هذا الشاعر الفذ، ولا التذكير بالمآل غير السار لمحبيه. و«الحياة» إذ تسعى إلى التطرق إلى ذكرى رحيل أحد أبرز شعراء القرن، إنما لتحذر من الأوضاع المأسوية التي يعيشها المبدع السعودي، أو على الأقل بعضهم لناحية الافتقاد إلى الرعاية الصحية، عدم توافر الكثير منهم على منازل خاصة، وعدد لا يمكن حصره يحتاجون إلى اهتمام المؤسسة الرسمية، اهتمام فعلي وليس مجدر تدشين مناسبة ثقافية تقرأ فيها أوراق ودراسات، إنما اهتمام حقيقي يتلمس الحاجات الأساسية ويوفرها. رحيل الثبيتي بقدر ما يجدد الحزن بسبب رحيله الباكر، بقدر ما يجعل المشهد الأدبي كله مستنفراً، مترقباً من سيكون الضحية المقبلة، ضحية للظروف الصعبة وللعوز ولقلة الرعاية. هنا شهادات أدلى بها عدد من الكتاب ل«الحياة»، حول الراحل وعن أوضاع المثقف السعودي. أحمد الدويحي: إهمال حد الفجيعة رحل أبو يوسف، رحل منا ويرحل العباقرة بأجسادهم، وتبقى أرواحهم تعطي للأجيال، تحلق في فضاء البشارة. وهو القائل: أنا خاتم الماثلين على النطع/هذا حسام الخطيئة يعبر خاصرتي/ فأُسلسل نبعاً من النار يجري دماً/ في عروق العذارى». محمد بن عواض الثبيتي ذات شاعرة، حفلت بالغوص في تربة حقل اللغة المحملة بثقافتها الأسطورية، فجاءت حمولاتها برؤية النبوءة، والعرافة، والاستقصاء، والاحتمال، والقراءة. خرجنا من أمسية شعرية في التسعينات، وقد أدار الرؤوس في ليلة قاسمه بهاءها الشاعر القادم من هامات السروات محمد بن زائد الألمعي، وكانت تلك الليلة فارقة في حركة شعر الحداثة، وصوت الشاعر الكبير يجهر بتفاصيل الحلم ويفصل في القول، وكانت أول مصافحة مع الشاعر البدوي الذي صَادِقُ الشَّوارِعْ، والرَّمْلَ والْمَزَارِعْ ، والنَّخِيلْ، والمدينة، والبحر والسفينة، والشاطئ، والبلابل، والموسم الطويل، وفرحت به تلك الليلة، يناولني النسخة الوحيدة من ديوان التضاريس، ليحتمي الجميع من هجمة المتوجسين، وكانت تلك الهدية بالغة القيمة، وعنواناً لبداية معرفة ومحبة دامت عقوداً مضيئة كواحد من ملايين، عشقوا حرفه النبيل، وكأن القدر كتب أن نلتقي آخر مرة، ونحن نعلو فوق الغيم بعد ثلاثة عقود من اللقاء الأول وفي الفضاء بين الأرض والسماء، وكأنَّ وضاح اليمن، ينتظرنا في رحلة نادرة وجميلة، وسهيلُ ألقى في يمين الشمسِ مهجتَه، وولَّى والثريا حلَّ في أفلاكها، وسأظل أكتبُ كثيراً، وكثير عن رحلة في حضرة العملاق الشاعر والإنسان محمد الثبيتي، محمد الإنسان البسيط المتواضع الذي ظل على سجيته، وفطرته الأولى البكر الصادق الوفي العذب، محمد الفنان الذي يأخذك إلى مواطئ الجمال والدهشة، محمد الشاعر الشامخ الذي يقتد مفردته من ثقافة موغلة في التراث، وممزوجة بلظى موهبة شعرية لا تتكرر في قرون، محمد الثبيتي العازف عن الجوائز والشهرة والأضواء وتلك حكاية أخرى، سقط محمد الثبيتي بعد نهاية الرحلة بثلاثة أيام، فُجعت وقد تواعدنا أن نلتقي في الرياض، لنحضر فعاليات معرض الكتاب، وليأتني الخبر موجعاً مفجعا، ومرت الأيام من دون أن يجد الثبيتي عناية طبية تنقذ حالته، فدُمرت الذاكرة التي حملت الوطن البشارة. يا للهول؟ّ! حينما نقلب ملف محمد الثبيتي الطبي، لماذا فقدنا قامة شعرية بلا مبالاة وإهمال حد الفجيعة؟. وكأني به يردد القصيدة التي قال ابنه البار نزار محمد الثبيتي، أنه كان يرددها في بيته المتواضع فوق أحد جبال أحياء مكة، فتسكن روحه الطاهرة ويكفيه وحيها: يا امْرَأَةْ/بَينَنَا بَرْزَخٌ مِنْ جُنُونِ/وسُهْدٌ تَشَرَّبَ مَاءَ العُيُونِ/وحُزْنٌ يَسُدُّ فَضَاءَ الرِّئَةْ/ يَا امْرَأَةْ/ بَينَنَا عَاذِلٌ لاَ يُرى/ وعَينٌ مُجَافِيَةٌ لِلكَرَى/ ولَيلٌ قَنَادِيلُهُ مُطْفَأَةْ». نزار الذي ظل ملازماً لوالده وباراً به، يخبرني عن بعض إيماءات محمد الثبيتي، وما تجود به ذاكرة طوت كل شيء، فيتصرف بالعفوية والبراءة ذاتها في عينيه، حينما يحضر الأصدقاء لزيارته، يحتفي بهم ويبتسم لرفيق دربه الشاعر/عبد الله الصيخان، ويتمتم بكلمات، فقد عاش الثبيتي في حرم القصيدة وداخل جلبابها، وقضى عمره يواجهها وجهاً لوجه. ستموتُ النسورُ التي وشمتْ دَمَكَ الطفلَ يوماً/ وأنتَ الذي في عروقِ الثرى نخلةٌ لا تَمُوتْ». سَلاَمٌ عَلَيكَ. سَلاَمُ عَلَيكْ. عطاالله الجعيد: خُسران قامة شعرية لاشك أن رحيل الشاعر محمد الثبيتي تُعد خسارةً كبيرة على المشهد الثقافي العربي ولاسيما السعودي، فبموته خسرنا قامةً شعريةً سامقةً استطاعت أن تبعث في الشعر العربي حياةً جديدةً وأن تُعيد للشعر وهجه بعد أن كاد ينطفئ، وما مر به الشاعر خلال مرضه ومعاناته لثلاث سنوات وعدم اهتمام المؤسسات الحكومية والصحية بمعالجته يجعلنا نقف حيارى مشدوهين أمام وضع المثقف السعودي وعدم حصوله على الاهتمام الكافي، سواء في صحته أثناء حياته أم في مرضه، وهو ما يركز فينا للأسف الشديد أن الثقافة لا تجلب إلا المعاناة لصاحبها، وبهذا نطالب وزارة الإعلام والثقافة والجهات الأخرى بسن أنظمة توفر للمثقفين كرامة العيش في حياتهم وبعد مماتهم. وتجربتنا في نادي الطائف الأدبي بعد تسلمنا إدارته والتي جاءت بعد وفاة الشاعر محمد الثبيتي طرحت مع زملائي في أول اجتماع لمجلس الإدارة تأسيس جائزة باسم الشاعر محمد الثبيتي عرفاناً منا لهذه الشخصية الأدبية والإبداعية ووفاءً من نادي الطائف الأدبي لأحدي أبنائها، فاستطعنا أن نضع الجائزة -على رغم عمرها القصير- من خلال حجم المشاركات الشعرية والنقدية والتي تدل على أهميتها. رحم الله الشاعر محمد الثبيتي سيد البيد. أحمد الهلالي: مدرسة ينهل منها المبدعون حين تثير ذكرى رحيل الشاعر محمد الثبيتي المأساة التي يعيشها المبدع السعودي؛ فلأن شخص الثبيتي -يرحمه الله- تعرض لقسوة المجتمع، وللعديد من المضايقات التي وصلت إلى مطاردته، وتهريبه من الأبواب الخلفية في بعض أمسياته حماية له، ولم يجد حماية مميزة على الصعيد الرسمي، أو ملاحقة مطارديه على الأقل، ومن ذلك التاريخ والمثقف السعودي هدف للملاحقات، ولا وزارة تحمي حقوقه، ولا مؤسسات مجتمع مدني، وحتى الجمعيات المعنية بشؤون المثقف وشجونه واجهت الكثير من الصعوبات في التشيؤ إلى يومنا هذا، غير المرض والعوز الذي يعانيه بعض المثقفين، ولا يحس بمعاناتهم أحد إلى درجة الإحباط والعزلة. أما تراث الثبيتي فهو تراث أمة، وهو الأيقونة الحديثة التي يفاخر بها السعوديون أمام القامات الشعرية العربية، وما تزال تجربته مدرسة ينهل منها المبدعون وتجد أثرها في جل النتاج الحديث، وما تزال أيضاً حقلاً خصباً للعديد من الدراسات الأكاديمية والنقدية، إضافة إلى إطلاق نادي الطائف الأدبي جائزة عربية رفيعة المستوى باسمه، واستكتاب النقاد في بعض محاور تجربته الثرية، مضت منها دورتان، وستستمر في عطاءاتها بإذن الله، فعلى الثبيتي رحمة الله وأمانه والسلام. منى شداد: ذكرى الرحيل عندما وصلني خبر وفاة الثبيتي كنت قد أنجزت بحثي في الماجستير ولم يبقَ غير المناقشة حتى أهدي عملي المتواضع له، وللمرة الثانية يغادرني محمد، فالمرة الأولى كانت بعد عودته من صنعاء لحضور الأيام الثقافية في اليمن، وقد أصابته الجلطة وبعدها بسنتين رحل محمد الثبيتي جسداً ليبقى ذكرى لا تمحى أبداً. ولأن الشاعر إنساناً قدم للإنسانية جهده وفكره كان لحياته الخاصة مكانة خاصة أيضاً ومسؤولية مضاعفة على المجتمع، فلا أقل من أن يهتم ويبادر ويقدم هذا المجتمع لذلك الشاعر معاملة مميزة لأبنائه من بعده، تعبيراً وامتناناً لهذا المبدع فالثبيتي تعرض لهجوم ومؤامرات أثرت كثيراً فيه سواء من الناحية الاجتماعية أم حتى في ظهوره الإعلامي الذي انعكس سلباً على انتشاره لدى شرائح المجتمع، ولذلك نحن مدانون لهذا العظيم بالكثير والكثير، فسلام عليه سلام عليه. راشد القثامي: مرحلة لم تخلُ من الصدام لا شكَّ أنَّ الشعر لمْ يكُنْ منفصِلاً عن أفقِ المرحلةِ التي كانَ يعيشُها، الشاعر محمد الثبيتي، وهي فترةٌ لمْ تخلُ مِنْ الصدام المحتدمِ بينَ تيارِ الحداثة، وتيار الصحوة، مِنْ ذلك نستطيعُ القول إنَّ الشاعر محمد الثبيتي أحد ضحايا الثارات التي كانت تجري بينَ الطرفين، معَ أنَّهُ لمْ يكُنْ منظرًا أوْ كاتبَ مقالة، فكرية أوْ غير ذلِك بلْ لمْ يتجاوزْ عوالم نصه الشعري المكتنزِ بشعريةٍ قوامها النص البعيد القريب. إنَّ الثبيتي شاعر، كبير حتى في نظر أبناء جيله. لذا قالَ لي الشاعر الكبير عبدالكريم العودة: إنَّهُ في مقدم الشعراء السعوديين المجددين، وأرى أنَّهُ منَ الطبيعي أنْ يكونَ لأي صراعٍ آيدلوجي ضحايا ومِنْ هؤلاء الضحايا الشاعر الثبيتي، وأعتقدُ أنَّ هذهِ الصراعات قدْ تسبَّبَتْ في توقُّفِهِ عنِ الكتابة الشعرية، لذا هو شاعر مُقِل في منتوجه مقارنةً بشعراء جيلِهِ منَ الأدباء العرب. أما عنِ المأسوية التي يعيشُها الشعراء والكتاب فبإضافةً إلى الصدامات الفكرية، فأرى أنَّ الوضع الذي يعيشُه الأديب العربي هو امتداد طبيعي للحالةِ الراهنة التي يعيشُها المجتمع العربي الذي يعاني إرهاق جرَّاء الهجمات التي يشنُها الأعداء غير العرب. أما ما يمكنُ تقديمه لتراث الشاعر الثبيتي هو تسليطُ الضوء على نصوصه درسًا ونقدًا بالدرجة الأولى، ومن جهةٍ أخرى ترسيخ الأدب الحقيقي المُنتج للجمالية في ذاكرتنا الأدبية القومية؛ لأنَّ الشعراء والمبدعين هم نافذةٌ من خلالِها ننفذُ إلى عوالم الجمال التي تمتازُ بها لغتنا وأدبنا الراقي. أمل القثامية: رمز الكثير من المآسي ذكرى وفاة محمد الثبيتي وبعض من الأدباء والمبدعين تثير الحسرات على الأوضاع المأسوية التي يعيشها الشعراء والأدباء في الأوطان العربية. ولعل الثبيتي بالذات تثير ذكرى وفاته التحسر على ما آل إليه وضع المبدع والثقافة. ولعل هذا يعود إلى كونه رمزاً لكثير من المآسي التي عاشها الأدباء ويعيشونها منها. أولاً: عدم حصوله في حياته على المكانة التي تليق به كرمز من رموز الشعر الحداثي. ثانياً: غياب التكريم الواضح له في حياته كتدشين جائزة باسمه. ثالثاً: عدم تفريغه من العمل لأجل أن يبدع، بل ظل يكدح في العمل حتى طلب هو التقاعد المبكر. رابعاً: ليس هناك دعم مادي له في الحياة على رغم تقاعده وضعف راتبه مع التزاماته الكثيرة. خامساً: المرحلة التي جاء بها والصراع مع التيارات المضادة للحداثة، حدَّت من إنتاجه، ولو وجد مؤسسة تدافع عن تياره لما صمت سنوات من أجل أن يسلم من الحرب معهم. سادساً: الثبيتي اعتذر عن أمسيات كثيرة بسبب طغيان مد التيار المعارض للشعر الحداثي وهو ما أثَّر في حركة الثقافة. سابعاً: منع ديوانه الأول وظل فترة طويلة في مخازن أدبي جدة. ثامناً: مرض الثبيتي ولم يجد العلاج الكافي. تاسعاً: موته المفاجئ في عمر صغير. أمور كثيرة تحملها شخصية الثبيتي وطريقة فقده المفاجأة والإهمال الذي تعرض له وعدم دعمه الدعم الجاد. تجعلنا في ذكرى وفاته نجدد الحسرة على الأوضاع التي يعيشها المبدع. وفي ما يخص تراثه أطالب وزاره الثقافة بشراء منزله في (شارع الحج) والذي كتب في غرفته جل دواوينه وتحويله لمتحف. نحن نحتاج إلى حفظ تراث الثبيتي المتنوع، من أدواته المكتبية إلى مخطوطاته إلى مكتبته. فالثبتي رمز والدول لا تبقى إلا بالحفاظ على تراث رموزها. نحتاج إلى متحف. إلى دراسات أكثر حوله، إلى كتابة سيرته الذاتية في كتاب. نحتاج إلى أن نصنع فلما عنه أيضاً، فهناك الكثير من جوانب حياته الأدبية والإنسانية التي لم نعرفها عن شاعرنا الثبيتي.