يخبرنا رايت ميلز في كتابه «الخيال العلمي الاجتماعي» أنه حين كان في صدد تأليف دراسته عن «الطبقات العليا» في المجتمع الأميركي، ظل يقرأ للأديب الفرنسي بلزاك، وأخذ كثيراً مما كرس له نفسه من اهتمام بتغطية الطبقات والأنماط الرئيسة في المجتمع، لإيمانه بأن «الروائيين، الذين تتجسد في أعمالهم أكثر التعريفات انتشاراً للواقع البشري، غالباً ما يمتلكون هذا الخيال العلمي الاجتماعي، ويفعلون الكثير لاستيفاء متطلباته». وليس ميلز هو الأول الذي يستفيد من الأدب، في فهم المجتمع، أو تحليل سلوكيات البشر. فأمثاله كثر، ومسارهم ازداد رسوخاً إلى درجة ميلاد علم «اجتماع الأدب»، و «اجتماع الرواية»، بل صارت الرواية التاريخية أحد مصادر التأريخ، وهي بمقدار ما تضيء بعض الجوانب المظلمة للقديم، فإنها تُجلي بعض غموض ما سيأتي. وكان زكي نجيب محمود يرى أن الأديب «مصباح يضيء معالم الطريق، أما كيف تكون هذه الهداية أو هذا التحليل، فأمر متروك لقواعد الفن الأدبي، وهذه القواعد تعتمد في جانب كبير منها، فضلاً عن التشكيل الجمالي للغة، على فهم التخيل والتخييل». ويتفق معه فؤاد زكريا، ويذهب إلى أن جوانب التشابه، بين النشاط الذي يمارسه الإنسان في العلم وفي الفنون والآداب أقوى مما يبدو للوهلة الأولى، ويدعو إلى التأمل في دور الخيال في هذين الميدانين. وهناك الكثير من الأعمال الأدبية، العربية والأجنبية، التي تبرهن على وظيفة الأدب في إثراء الخيال الاجتماعي والسياسي، من أمثال روايتي الأديب الفرنسي رابليه: «غارغونتوا»، و «بانتاغريول»، ورواية الأديب البريطاني جوناثان سويفت «رحلات غاليفر»، ومسرحيتي شكسبير «الليلة الثانية عشرة»، و «حلم ليلة صيف»، ومسرحية توفيق الحكيم «رحلة إلى الغد»، ورواية نجيب محفوظ «رحلة ابن فطومة»، ومسرحيات يوسف إدريس «الفرافير»، و «الجنس الثالث» و «المهزلة الأرضية»، ورواية الطاهر وطار «الشمعة والدهاليز». والأوضح أو الأبرز في هذا الصدد ثلاث روايات، أولاها رواية ألدوس هكسلي «عالم جديد شجاع» Brave New World، التي انتهى من كتابتها عام 1931 ونشرت في السنة التي تلتها، وتدور في مجتمع شديد التحرر، ويبدي فيها تخوفه من تحكم العلم في حياة الناس، فتخيل مدينة يقطنها العلماء، وتهجرها المشاعر والجمال، ويستعين أهلها بالعلم في تلبية احتياجاتهم ورغباتهم، فيستغنون عن الزواج، ويكونون الأجنّة في قوارير بدلاً من أن تحملها أرحام الأمهات، ويكون الشاغل الوحيد لهم هو الاستمتاع بالجنس، ولا يهزهم الموت بل يتعاملون معه بمشاعر محايدة وهدوء يغيظ وكأنهم آلات صماء. وينقسم المجتمع إلى مجموعات، كل مجموعة أو طبقة تعد إعداداً خاصاً يناسب تكوينها الجسماني واستعدادها العقلي، أو تتم تربيتها في بيئة شبيهة بالمصنع، فيتم تلقين أفرادها طوال الوقت، حتى وهم يغطّون في سبات عميق، كل الأفكار التي يجب أن يؤمنوا بها. ويعيش الفرد في هذا المجتمع المتخيل في غير كبد ولا مشقة في تدبير احتياجاته الجسدية، وهو إن أراد شيئاً فلن يبذل جهداً في سبيل الوصول إليه، إنما يكفيه أن يضغط على زر، أو يحرك مقبضاً ليجد أمامه ما طلبه. وإن شعر أي فرد بأن هناك ما ينغّص عليه عيشه، فيمكنه أن يبحث عن السلوى في تعاطي المخدرات. وبهذا، فإن هذا المجتمع فيه تقنية للتناسل واللذة الجنسية، وتقنية لتحوير العقل والجسد من خلال التلقين أثناء النوم وجراحات التجميل وأقراص تمنح السعادة وتجدد الشباب، وتقنية للرفاهية والتسلية التي تشبع الحواس الخمس. لكن هذا لا يجعل الحياة مقبولة، وخالية من الملل، بل يعاني الإنسان فيها من ظمأ روحي شديد. والثانية، رواية ه. ج. ولز «شكل الأشياء في المستقبل»، الصادرة في 1933 وحملت نبوءة بوقوع حرب في الأربعينات من القرن الماضي، تليها حمى شديدة في الخمسينات تقتل نصف سكان العالم، ولا يعود التماسك إلى العالم إلا في منتصف الستينات بإيجاد «لجنة التحكم في الجو والبحر»، وهي مجموعة من الناس تسعى الى صنع «دولة عالمية»، لكن هذا الحلم لن يتحقق إلا بعد 56 سنة أخرى يعيش فيها الناس موجوعين من الإرهاب والكبت. وعلى لسان إحدى شخصيات الرواية، يصف ولز ما يتوقع أن تكون عليه الحياة عام 2100، اذ يمكن الناس أن يفعلوا ما يريدون، من دون قيود ولا كوابح، لا يحكمهم إلا الاحترام اللائق للعقول، بل يتنبأ بتربية سليمة للعقل والجسم وحماية مضبوطة وصارمة للملكية والمال العام بطريقة لم يكن في وسع الاشتراكيين الأقحاح أن يصدقوها. والثالثة، رواية جورج أوريل «1984» التي رأت النور عام 1949 وتنبأ فيها بسيطرة قوة كبيرة على العالم تتقاسم مساحته، وتحول البشر إلى مجرد أرقام في «جمهورية الأخ الكبير» الشمولية، التي تعدّ عليهم أنفاسهم، بعد أن تتحول القيم الإنسانية النبيلة إلى أمور تافهة، وتصبح الحياة خالية من العواطف والأحلام، ويتصرف البشر كأنهم آلات صماء. وتدور أحداث الرواية التي تخيلها أورويل في مدينة لندن، وبطلها صحافي يعمل في «وزارة الحقيقة» يخضع لمراقبة لا إرادية من رجال الشرطة والجيران، على رغم أنه مواطن شريف، ويُحرم من أن يلتقي من يحب، ويعرف أن السلطات تغير باستمرار المعلومات والبيانات الموثقة عن الأفراد لتتماشى مع رغبة ومصلحة الحزب المسيطر، وإرادة الحكومة التي يقودها الأخ الأكبر. هذه الروايات، وغيرها، فتحت أمام الأذهان نافذة عريضة لتأمل المستقبل الاجتماعي والسياسي، وكانت مصدر إلهام للسياسيين أنفسهم، وجعلت العلماء والمفكرين يعملون في سبيل تعظيم الفوائد وتجنب الخسائر التي حملتها تلك التكهنات.