يتفرع نهر «كما ينبغي لنهر» الروائي في فرعين متوازين غير متعادلين يغزر أحدهما ويضحل آخر بالتناوب والتفاعل، الفرع الثاني يروي حكاية صراع أبي شامة الذي لا نقع له على صفات مشبعة مع نذير الإسلامي صاحب العمامة. الراوية تعدد أسباباً لهذا الصراع ما بين ديني واجتماعي وطبقي... والخط الأول يروي حكاية فطمة والحكايات الجانبية الكثيرة الحافة بالخطين. سيرة فطمة وكفاحها من اجل البقاء ستلخص حياة المدينة روحياً وثقافياً واجتماعياً، والرواية تحيا بتفاصيلها الدقيقة والشعبية وبرموزها، ففطمة اسم يتجاوز الإشارة العابرة إلى رتبة الرمز المستقل والممتد بعراقته في عروق التاريخ منذ متدللة امرئ القيس الدلوعة التي عزمت صرمه... والفاطم ترتبط بالحليب والرحم وأولي الأرحام التي تهدي مؤلفة العمل إليهم عملها إهداء جارحاً وشجياً يضمر حكاية خفية في صفحتها الأولى (لا تسألوا متى يعود؟: إلى اخوي مصطفى ومخلص) تصاحب فطمة نباتات بيتها وتغازلها وتساويها بسنوات عمرها وتصطفي النخلة أكثر أشجار العرب والمسلمين كرامة بصحبة خاصة ( أكرموا عمتكم النخلة) وبرمز النهر، الذي ليس له اسم مثل مدينة الراوية. والرواية على تفاصليها تشكو من قلة الإرواء بسبب سرعة السرد أو الرغبة في التعميم أو الترميز أو التلخيص، والسرد يعتمد على الإخبار غالباً ويتم بأسلوبين هما المتكلم والغائب، ومن الرموز الأخرى صندوق الذكريات وعمامة نذير التي يريد أبو شامة انتزاعها، وهي رمز السلطة والتاريخ، ومن جهة الشمال يحضر رمز الجرذ المخرب الذي يتوازى مع أبي شامة او أبي تالولة. فطمة هي أم الرجال وأختهم وذاكرتهم. واذ كانت ستموت بالسرطان بعد زواجين فاشلين وقصة حب مؤلمة وولادة تنتهي بموت الوليد فإن الجيل العائلي الجديد سيبشر بالحياة الجديدة والجملة الأخيرة في الرواية ستفتح كوة للأمل بحياة جديدة خالية من الصراع والثأر. لكنني سأشير في هذا المقال إلى نسوية الرواية وأمومتها التي قلما تظهر في روايات عدد من زميلاتها العربيات... ولعل رهان بعض الروائيات المعاصرات يتجه إلى اقتحام المحرم الجنسي سلماً في الصعود الى الشهرة... ولعل صفة روايات «الجنس الثالث» وهو عنوان أحد كتب يوسف إدريس يصلح لبعض هذه الروايات بسبب «شجاعتها» الشديدة... وتتجلى كرامة نسوية رواية منهل السراج في الاحتفاء الكثيف بجماليات البيت العربي وثقافة الأطعمة والابتهال إلى لحظات التواد والتراحم والحنين والحنان والذي يكاد ان يصير نسكاً أما لحظة الجنس، فهي وإن كانت حاضرة في بال الكاتبة فهي لحظة خجولة، تناسب مدينة الراوية التقيّة، ففي ليلة الدخلة التي تساق إليها فطمة سوقاً تقول بخفر المرأة «الشرقية»: تعرّت وبعثرته، كل عوالمه التي عرفها وأدركها هربت إلى مكان مجهول، كل شيء ممكن، إلا أن تنظر في عينيه، وتتعرى بهذه البساطة ثم تستلقي بجانبه، فكر، يجب أن ينجح، ابتلع ريقه... في غفلة منه ومنها انتهى كل شيء وسيتصل بأمه مبشراً: قوسنا الضبع؟ وسنكتشف أن الرجل في مجتمع التقوى يخاف من لحظة الخلود الموقت أو لحظة الطرد من الجنة أكثر من خوف الأنثى من لحظة تجاوز العذرية؟ جماليات المكان وتكتظ الرواية بهوامش المرأة وأسرار تجملها وأسباب زينتها من أحمر شفاه وريشة الكحل العربي (الذي يملأ الوجه كحلاً قبل أن يرتسم على جفن العين والتزين بلون غامق كي يشرق الوجه أكثر). أما جماليات المكان، التي ربطها غاستون باشلار بالفردوس المفقود، من الأشياء والخزن والأدراج والأعشاش والثقوب والعرائش واصص النباتات والكانفاه وكشكش الأثواب فستتطرز به الرواية وتجعل منه ملكوتاً أنثوياً واضحاً، ويعج المكان التقي روحياً بالأدعية والآذان وتهاليل الموالد وأهازيج العيد والأذكار النبوية وابتهالات مسحراتي رمضان وهو ينبه الناس قبل الإمساك: يا أمة خير الأنام... كفوا عن الطعام، لكنّ ثقافة الطعام ستكون الأوفر حظاً بنسوية الرواية ففطمة تربط مطلق الحرية بمحسوس الطعام وهي تتذكر أخاها البريء المعتقل المحروم من «الباطرش» الذي يحبه. وفطمة ستكون مشغولة بادخار أطعمة الشتاء وهي تحظى بخبرة عشتارية في الطبخ وانتقاء الثمار المناسبة للطبخ فهي «تقضم كل باذنجانة كي تتأكد من بياض قلبها وخلوه من البزر، أما جودة البطاطا فتعرف من قشرتها، ويفضل أن تكون أوراق البقدونس رقيقة وأعواده ضعيفة قصيرة، أما الملوخية فتكون ملوكية عندما لا تحتوي أغصانها على بذورها التي سرعان ما تنمو في الجو الحار، البستانية منها ذات الأوراق الخضراء غير الداكنة هي المفضلة، تتحدد جودة السلبين من «جيجته»...». ولهذا ليس غريباً أن تفر من زوجها بسبب تخلف مطبخه، وبسبب حنينها إلى «ورق الليمون وقلب عبدالوهاب والسجادة، الهوى الناعم، وظهر السلحفاة والكريتون، شبيه القماش الذي يبيعه أعمامها للقرى. لكن رغم عناية أم الحب الدقيقة في اختيار توقيت النقل الذي يناسب هذه النباتات، صباح منتصف الربيع، إلا أن أصص الفخار بمزروعاتها، صمدت عشرين يوماً فقط، ثم ذبلت دفعة واحدة وماتت». أما التعبير عن ورع المدينة وقنوتها فسيأتي عبر كثير من الإشارات المشهدية «كانت فطمة تنشر الغسيل بتأن كما تفضّل أمها، فتسوي ملاءات الأسرّة جيداً على الحبال وتعلق قمصان الشباب من الكتفين مثبتة سراويلهم الداخلية كما تلبس، أما سراويل الفتيات الداخلية فتضعها متلاصقة مموهة، لا كما تلبس، كي لا تحرّض المارّين على التخيل»! فطمة منهل السراج ليست مثل فطمة امرئ القيس الشقية اللعوب، ولا مثل جولييت شكسبير التي تنتحر حباً وإخلاصاً لحبيبها الذي ينتمي إلى الحارة الأخرى، فقد حاولت فطمة الانتحار، لكن ليس حزناً على حبيبها الذي ينتمي إلى الآخرين بل حباً في الحرية، وإذا كانت قد أخفقت في أن تكون حبيبة وزوجة أو أماً فإنها في النهاية استطاعت أن ترمز الى مدينة ينقصها شيء ما.