الشرق الأوسط الحديث ولد من رحم الدولة العثمانية المهزومة عام 1918، قبل أن تموت مع إنشاء أتاتورك الدولة التركية في 1923. ما قرره اتفاق سايكس - بيكو عام 1916 بانت ملامحه في فترة ما بين الحربين العالميتين قبل أن تخرج «المنتوجات» في قوام دول جديدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بما فيها دولة إسرائيل. خرج عن المخطط ما جرى في شبه الجزيرة العربية حين استطاع عبدالعزيز آل سعود القضاء على حكم الهاشميين في الحجاز عام 1925، وهو ما كان طريقاً إلى إنشاء المملكة العربية السعودية في 1932. كانت الدول العربية الأربع: مصر، السعودية، العراق، سورية ما بعد 1976، هي الأقوى في الشرق الأوسط الجديد من الناحية السياسية، على رغم وجود دول أقوى منها عسكرياً مثل إسرائيل وتركيا وإيران. لم تستطع تل أبيب ترجمة انتصاراتها العسكرية إلى حقائق سياسية إلا بعد ثلاثين عاماً من ولادة الدولة العبرية بدءاً من اتفاقات كامب دايفيد عام 1978 عبر اعتراف مصري تجسد لاحقاً في المعاهدة المصرية – الإسرائيلية في 26 آذار (مارس) 1979 ليكون الاعتراف العربي الأول بما جرى يوم الجمعة 14 أيار (مايو) 1948 على أرض فلسطين حين أعلن دايفيد بن غوريون الدولة العبرية، إلا أن إسرائيل لم تستطع طوال 67 عاماً على ولادتها أن تكون أكثر من زرع غريب في المنطقة أو مخفر بريطاني ثم بريطاني - فرنسي منذ حرب 1956 وأميركي بعد شباط (فبراير) 1964. عندما حاولت أنقرةوطهران في الخمسينات فرض لونها في المنطقة، بدعم من لندن ثم واشنطن عبر «حلف بغداد» أو غيره، لم تستطيعا النجاح أمام المد الناصري الذي حكم دمشق في 22 شباط 1958 وقلقل بيروت في 12 أيار 1958 ثم سقطت بغداد بيدي تحالف عسكري - مدني من العروبيين والشيوعيين في 14 تموز (يوليو) 1958. كان تنامي المد الناصري سبباً في تفكك تحالف القاهرة - الرياض الذي كان بين عامي 1945 و1957 في وجه هاشميي بغداد وطموحاتهم لاستعادة دمشق التي لم تهدأ منذ خروج الملك فيصل بن الحسين بعد معركة ميسلون في 24 تموز 1920، وليكون يمن 1962 - 1970 ساحة رئيسية للمواجهة السعودية - المصرية بعد أن فقد عبدالناصر بغداد مع المجابهة بين الشيوعيين والعروبيين منذ أيلول (سبتمبر) 1958 وبعد أن فقد دمشق مع الانفصال في 28 أيلول 1961. أتى تشكل ثالوث (الرياض - القاهرة - دمشق) بين عامي 1971 و1977 لكي يحافظ على اللون العربي للشرق الأوسط، وكادت بغداد تكمل هذا المثلث، بعد زيارة السادات إسرائيل في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977، عبر التقارب السوري - العراقي بين شهري تشرين الأول (أكتوبر) 1978 وتموز 1979، قبل أن يحصل الطلاق بين عاصمتي العباسيين والأمويين الذي أتى على وقع ما حصل في طهران في 11 شباط 1979. منذ تسلم الخميني السلطة الإيرانية كانت هناك إشارات واضحة على أن القلب النابض لمنطقة الشرق الأوسط انتقل إلى خارج العرب للمرة الأولى منذ عام 1945. لم يمنع انتصار صدام حسين في الحرب العراقية – الإيرانية بين عامي 1980 و1988 من حصول ذلك، خصوصاً بعد وقوعه في حفرة 2 آب (أغسطس) 1990 في الكويت. هنا، لم تستطع عودة ثالوث (الرياض - القاهرة - دمشق) إلى الالتئام على وقع حدث 2 آب 1990 تلافي حصول ذلك أيضاً، وقد كان نشوء التحالف الأميركي - الإيراني في غزو العراق واحتلاله عام 2003 ترجمة فعلية في عاصمة العباسيين لمحاولة نقل زعامة الشرق الأوسط إلى طهران بإرادة أميركية، قبل أن تأتي أنقرة أردوغان لمنافستها منذ عام 2007 برضا أميركي إثر انفكاك التحالف الأميركي - الإيراني في آب 2005 مع استئناف طهران برنامجها في تخصيب اليورانيوم مستغلة مكاسبها العراقية، وقبل أن تحاول الرياض مجابهة المد الإيراني الإقليمي بدءاً من بيروت 2005. مع انتهاء الحرب الباردة عام 1989، تقلصت أهمية المخفر الإسرائيلي عند واشنطن بعد أن بانت أهميته في حروب 1967 و1973 و1982 وفي ضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981. خلال ربع القرن الماضي تفاقم التقلص في الأهمية الاستراتيجية لإسرائيل عند واشنطن، خصوصاً حين تولّت مباشرة تقليع «الشوك الإقليمي» بيديها مع غزو العراق واحتلاله، ثم تجسد ذلك عملياً حين جرى التفاهم الأميركي – الإيراني في لوزان 2 نيسان (أبريل) 2015 وفي فيينا 14 تموز 2015 على رغم إرادة بنيامين نتانياهو. مع سقوط بغداد في 9 نيسان 2003 بيد التحالف الأميركي - الإيراني، أصبحت تطورات إقليم الشرق الأوسط كلها تدور على إيقاع هذا التحالف، ثم على وقع تفككه في آب 2005، ثم على مفاعيل المضادات الإقليمية للمد الإيراني في الرياضوأنقرة، وبعد ذلك ليكون التفاهم الأميركي - الإيراني في لوزان - فيينا 2015، أهم حدث إقليمي منذ سقوط بغداد. التطورات الإقليمية كلها أتت على وقع ما كان سيجرى بين واشنطنوطهران، ثم على وقع ما جرى بينهما: التقارب السعودي - التركي في شباط 2015، التقارب السعودي - الروسي في حزيران (يونيو) 2015، التدخل العسكري الروسي في سورية منذ 30 أيلول 2015، ثم التحالف المستجد في الأسبوع الأخير من عام 2015 بين أنقرةوالرياض. تعطي تطورات عام 2015 صورة عن تشكُّل جديد لمنطقة الشرق الأوسط: خروج أميركي من المنطقة بالترافق مع محاولة تنظيمها من جانب باراك أوباما، ولكن ليس على طراز دخول سلفه المنطقة، بل عبر التعاكس معه بعملية خروج تترافق مع تنظيم وتوزيع أميركي خريطة النفوذ الإقليمية: ايران الرقم واحد في العراق مع منع أميركي روسيا من إنشاء «غرفة عمليات بغداد» ضد «داعش». تفاهم أميركي - روسي على التدخُّل العسكري الروسي في سورية الذي كانت حصيلته ما جرى في (فيينا 1 و2)، ثم القرار 2254 في نيويورك مع مفاعيل أدى إليها التدخل الروسي قادت إلى تحجيم الدورين الإيراني والتركي في سورية ما بعد 30 أيلول 2015، فيما كان هناك توليد لمؤتمر الرياض للمعارضة السورية عبر الحاضنة الأميركية - الروسية في مؤتمر فيينا 2 في 14 تشرين الثاني 2015. الرياض الرقم واحد في صنعاء ما بعد علي عبدالله صالح والحوثيين مع أدوار إقليمية مستقبلية في دمشقوبيروت وأربيل، بعد أن أثبتت السعودية قوتها الإقليمية في الدور الذي لعبته في إسقاط حكم «الإخوان المسلمين» بمصر في 3 تموز 2013، وفي يمن ما بعد 26 آذار 2015. ذهاب أردوغان إلى الرياض هو ركوب في المركب السعودي بعد تهميش دور أنقرة في سورية والعراق برضا أميركي وبأدوات روسية - إيرانية، لكي يهمش أو ينتهي، على ما يبدو من مؤشرات كثيرة، الدور التركي الإقليمي جنوبي ديار بكر وغازي عنتاب، وربما مع بقائه باتجاه القفقاس وآسيا الوسطى الإسلامية السوفياتية السابقة، وهو ما كان برضا واشنطن منذ تفكك الاتحاد السوفياتي نهاية عام 1991. المحافظة على ما أرسته مفاعيل اتفاقات كامب دايفيد من استقالة مصر من أدوارها الماضية في آسيا العربية، وأيضاً فقدانها اللاحق أي دور في أزمات السودان في الجنوب ودارفور قبل أن يكون دورها هامشياً في الحل الأخير للأزمة الليبية. * كاتب سوري