عندما غزت الولاياتالمتحدة الأميركية العراق واحتلّته عام 2003 كانت الرياض والقاهرةوأنقرة ضد الغزو، فيما وقفت طهران معه، وهي المتخاصمة مع واشنطن منذ عام 1979. أدار جورج بوش الابن ظهره للحلفاء الإقليميين، كما لم يعر التفاتاً لمعارضة باريس وبرلين وموسكو. غزا الرئيس الأميركي أرض الرافدين من «أجل إعادة صياغة المنطقة». كان ما فعلته واشنطن في بغداد انخراطاً في دواخل الإقليم، مع السابقة الأفغانية عام 2001، ثم لبنان 2004- 2005، وكان إرسال الجندي الأميركي لصياغة الدواخل ومعها الإقليم، كما حاول بول بريمر في العراق، يعني «نزع الشوك بيد أميركية» واستغناء عن أدوار الحلفاء الإقليميين، مثل إسرائيل في حربي 1967 و1982 وشاه إيران منذ عام 1972 في دور «شرطي الخليج» عقب الانسحاب البريطاني من شرق السويس. عندما أطلقت كوندوليزا رايس بعد قليل من بدء حرب 2006 في لبنان تصريحها عن أن ما تفعله إسرائيل «آلام مخاض ضرورية من أجل ولادة الشرق الأوسط الجديد»، الذي بدأ الحبل به مع سقوط بغداد في 9 نيسان (أبريل) 2003، كان هذا يعني انحرافاً أميركياً نحو الاستعانة ثانية بالحلفاء الإقليميين بعد أن تعثّرت المهمة الأميركية في العراق، خصوصاً إثر بدء الانشقاق الأميركي- الإيراني مع استئناف طهران برنامجها في تخصيب اليورانيوم منذ آب (أغسطس) 2005. أُجهض المولود الأميركي مع فشل إسرائيل في حرب 2006 التي كانت حرباً بالوكالة عن واشنطن وطهران. في تشرين الأول (أكتوبر) 2006 أعطت رايس تصوراً جديداً للمنطقة: «الصراع الآن هو بين معتدلين ومتطرفين». كان من الواضح منذ ذلك الوقت أن التناقض الرئيسي الأميركي قد أصبح ضد التمدُّد الإقليمي الإيراني الذي أخذ قوة اندفاعه الأولى والكبرى مما فعلته واشنطن بصدام حسين. عملياً، قادت المجابهة الأميركية- الإيرانية على مدار الإقليم من كابول إلى الشاطئ الشرقي للمتوسط، مع مكاسب إيرانية في غزة 14 حزيران (يونيو) 2007 وبيروت 7 أيار (مايو) 2008 وبغداد نوري المالكي 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 وإسقاط «حزب الله» حكومة سعد الحريري في كانون الثاني (يناير) 2011، إلى تصعيد أميركي للدور الإقليمي التركي لمجابهة إيران في ظل الانسحاب الأميركي العسكري من العراق الذي وقع عملياً بأيد إيرانية مع حكومة المالكي الثانية وفشل مشروع تولي قائمة «العراقية» السلطة ببغداد بعد انتخابات برلمان 2010. لم تكن موافقة باراك أوباما على صعود الإسلام الأصولي الإخواني، مع «الربيع العربي» عام 2011، إلى السلطة في القاهرة وتونس وتولّي أنقرة ملف المعارضة السورية مع إعلان «المجلس الوطني» من إسطنبول في 2 تشرين الأول 2011 ببعيدة عن الاتجاه الأميركي إلى تصعيد الدور الإقليمي التركي بل إلى تزييته بأيديولوجية «مناسبة « تشابه النموذج الأردوغاني، وإلى وضع المنطقة في إطار صراع سني- شيعي لتحجيم المدّ الإقليمي الإيراني، ولكن ليس عبر صيغة 2006: «معتدلون ضد متطرفين» بل من خلال «أصولية إخوانية سنّية ضد أصولية خمينية- خامنئية شيعية». فشل هذا المشروع الأميركي مع تفاجؤ أميركي من «اليوم التالي» الذي أنتجه «الربيع العربي» حين قتل إسلاميون ليبيون أصعدتهم واشنطن و «الناتو» إلى السلطة مع إسقاط القذافي، السفير الأميركي في ليبيا في «11 سبتمبر» جديدة، ولكن في عام 2012، تماماً كما فوجئت واشنطن من «اليوم التالي» لما فعلته في عراق 2003. منذ ما جرى في بنغازي 11 أيلول (سبتمبر) 2012، بدأ الانقلاب الأميركي على الذات ليتجسد في محطات عدة: تصريح هيلاري كلينتون في زغرب في 31 تشرين الأول 2012 ضد «المجلس الوطني السوري»، وهو ما قاد عملياً إلى تشكيل «الائتلاف» بعد أحد عشر يوماً، ثم اتفاق 7 أيار 2013 بين كيري ولافروف في موسكو حول الأزمة السورية والذي كان يعني نزع التولية الأميركية لأردوغان عن الملف السوري، واتجاهاً إلى إعطاء موسكو هذا الدور من قبل واشنطن. حصلت ترجمات لهذا الاتجاه الأميركي الجديد في الدوحة 25 حزيران (يونيو) 2013 حين تخلى أمير قطر عن منصبه لولي العهد ثم في 3 تموز (يوليو) 2013 مع سقوط حكم محمد مرسي في القاهرة وبعده نهاية حكم «حركة النهضة» في تونس. كان هذا الاتجاه الأميركي عند باراك أوباما لتولية الحلفاء الإقليميين شؤون الشرق الأوسط بالوكالة عن واشنطن مختلفاً عما كان لدى جورج بوش الابن منذ خريف 2006: في 17 تشرين الثاني 2011 قال أوباما الكلمات التالية أمام البرلمان الأسترالي: «منطقة الباسيفيك (المحيط الهادئ)- آسيا هي مجال اهتمامنا الرئيسي». يبدو أن الرئيس الأميركي يعي أن الخطر الرئيسي أصبح في الشرق الأقصى بعد أن بدأ مركز ثقل الاقتصاد العالمي ينزاح عن ضفتي الأطلسي (لندن بعد معركة الأرمادا عام 1588 وانتصار الإنكليز على الإسبان، ثم نيويورك إثر الأزمة الاقتصادية العالمية 1929-1932) باتجاه آسيا الشرقية والجنوبية وأوقيانوسيا (34 في المئة من حجم الاقتصاد العالمي عام 2014 محسوباً عبر مقياس الناتج المحلي العالمي، والصين وحدها 17 في المئة من الاقتصاد العالمي). لم يعد قائماً التركيز الأميركي على الشرق الأوسط، البادئ منذ لقاء الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت مع الملك عبد العزيز آل سعود عام 1945 في باخرة عند قناة السويس أثناء عودة الرئيس الأميركي من مؤتمر يالطا مع ستالين وتشرشل، بسبب النفط، ثم من أجل مجابهة السوفيات عبر «الجدار الجنوبي» الشرق أوسطي منذ بدء الحرب الباردة عام 1947. ظهرت ملامح جديدة لتركيز أميركي على الشرق الأوسط، ولكن عبر رد فعل على حدث 2 آب (أغسطس) 1990، أي الغزو العراقي للكويت، تمثّل في حرب الخليج 1991 ثم في مؤتمر مدريد، ثم في رد فعل أميركي على (11 سبتمبر 2001) عبر حربي أفغانستان 2001 وعراق 2003. جاء التركيز الأميركي هنا من الاتجاه إلى منع «خرائط جديدة» عبر ما فعل صدام حسين بالكويت، ثم من الاتجاه إلى «إعادة صياغة المنطقة» بعد (11 سبتمبر) إثر إحساس جورج بوش الابن بأن منطقة الشرق الأوسط كانت مصدراً لكريات اللهب التي أصابت نيويورك وواشنطن في ذلك الصباح. ليس أوباما في هذا الخط، بل هو يريد توكيل إقليم الشرق الأوسط الذي لم يعد مهماً لواشنطن إلى وكلاء، في ظل انزياح أميركي نحو التركيز على الشرق الأقصى. يوحي اتجاه أوباما بأن اتفاق 14 تموز 2015 مع إيران هو باتجاه تحويلها إلى وكيل إقليمي عبر «المكافأة العراقية». بالمقابل الدخول العسكري الروسي إلى سورية منذ 30 أيلول 2015 ليس ضد الإرادة الأميركية. ليست روسيا دولة عظمى ما دامت ليست سوى الرقم عشرة في الاقتصاد العالمي وراء الهند وإيطاليا والبرازيل عام 2014، بل هي بحجم قوة إقليمية كبرى في شرق أوروبا وآسيا الوسطى والشرقية، وهي ليست أكثر من ذلك في محاولة حضورها في الشرق الأوسط ولكن برضا أميركي. يولد الاقتراب الأميركي من إيران قلقاً إسرائيلياً كان علنياً عند نتانياهو. في المقابل كان هذا التقارب، إضافة للاتجاه الأميركي بجعل روسيا الرقم واحد في سورية القادمة، سبباً في التقارب السعودي- التركي منذ شباط (فبراير) 2015، وهناك مؤشرات كثيرة على أن هذا التقارب الذي ترجم بدعم أكبر للجماعات المسلحة المعارضة في سورية الشمالية بدءاً مما جرى في مدينة إدلب في 24 آذار 2015 كان رد فعل على التقارب الأميركي- الإيراني- الروسي، وعملياً كان الوجود العسكري الروسي، برضا أميركي، هو من أجل وقف تمدُّد الجماعات المسلحة المعارضة في محافظة إدلب ومنطقة الغاب، والذي كاد أن يصل إلى الساحل مهدِّداً بقلب المشهد السوري، وبدأت قوة اندفاع هذا التمدُّد مع ما جرى في إدلب 24 آذار 2015. أيضاً هناك مؤشرات على أن ما جرى سعودياً في اليمن منذ 26 آذار 2015 لم يكن بموافقة أميركية مسبقة. يوحي التقارب السعودي- التركي بأن الانكفاء الأميركي عن الإقليم يتيح مجالاً للقوى الإقليمية بالصعود، كما أن هذا الانكفاء يدفع واشنطن إلى تصعيد قوى إقليمية مثل إيران، وإلى عدم الممانعة الأميركية بوجود روسي في المياه الدافئة في شرق المتوسط، وفي الوقت نفسه إلى عدم ممانعة واشنطن في أن تكون التسوية السورية أساساً عبر اتفاق روسي- سعودي أولاً ثم تركي، وفي هذا يحوي مؤتمر المعارضة السورية بالرياض، الذي كانت موسكو في فيينا من أكثر المتحمسين لعقده مع تحفظ إيراني، دلالات رمزية عدة من حيث شبهه بما كان في مؤتمر طائف 1989 اللبناني حين كانت واشنطن ثالثة التسوية بين دمشق والرياض، ومن حيث إيحاءاته بما سيكون عليه (جنيف 3). أيضاً إن الانكفاء الأميركي عن الإقليم هو الذي يتيح حرية حركة لمصر لم تكن منذ «كامب دايفيد»، جعلتها أكثر قرباً من موسكووطهران تجاه الأزمتين السورية واليمنية، وأتاحت لها اقتراباً من الكرملين غير مسبوق منذ قطيعة السادات عام 1974. * كاتب سوري