تدور في أذهان العديد من المهتمين بمتابعة الشأن السياسي العراقي فكرة إمكانية الرجوع بالدولة العراقية مرة أخرى الى طابع الحكم الديكتاتوري الصارم من دون أو مع بقاء الظهر الخارجي للدولة مظهراً ديموقراطياً بشكل عام. ويذهب الفريق المؤيد لهذا الطرح الى أن الغالبية العظمى من الشعب العراقي مستعدة (فطرياً) للقبول بحكم القوة والتسلط لما ألفه هذا الشعب في الماضي القريب والبعيد من حكومات مستبدة. وما يزيد من استسلام الجماهير لفكرة حاكمية الديكتاتور هو تخبط التجربة الديموقراطية الحديثة، هذه التجربة التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين، ويشكو قطاع عريض من العراقيين من أنهم لم يجنوا منها إلا الخسارة الفادحة في الأرواح والأرباح. ترى الى أي مدى يمكن أن تعود عجلة التاريخ الى الوراء في العراق وتستعيد نظم الحكم القمعي سطوتها السابقة؟ المناصرون لهذا الاستنتاج يعولون على سيكولوجية الشعب الساخطة على الأوضاع السياسية التي سادت البلاد منذ سنوات، ولكن ماذا عن القوى السياسية التي ترسم المشهد السياسي العراقي الحالي على صعيد السلطة والمعارضة، هل تنخرط هي أيضاً كلها أو بعضها في ركب الشعب المستاء من ممارسة الديموقراطية، أم انها لها تصوراتها المختلفة؟ وقبل أن نسترسل في محاولة إيجاد جواب لهذا السؤال لا بد من القطع أولاً بمدى صحة فرضية كون الشعب العراقي بات مهيأ أكثر من أي وقت مضى للرضوخ طواعية للحكم الديكتاتوري مجدداً، فهل هذه الفرضية جديرة بالاثبات أم انها محض تكهنات خيالية أو تعبيرات عن مآرب سياسية. ان تحليل قضية الحنين الشعبي الى الديكتاتورية يستدعي استقراء لجميع وجهات نظر العراقيين حول هذا الموضوع، وبما ان استقراء من هذا النوع لا ينهض به إلا جهد دولي كبير فإننا سنحاول معرفة ما تنطوي عليه الذهنية العراقية العامة من خلال أدوات أخرى كحساب تاريخ التجارب الديموقراطية الأكثر حداثة في العراق، ومن جهة أخرى محاولة قياس المستوى المعرفي لعموم المواطنين. فبالنسبة الى الفترة (الديموقراطية) الراهنة فإن صوت الناخب على سبيل المثال لا يزال قابلاً للمزايدة الاجتماعية والاقتصادية ولم يتحول الى قيمة سياسية ثمينة داخل النسيج الفكري للإنسان العادي، بل أصبح هذا الصوت بفعل حداثة التجربة وسوء أداء القابضين على السلطات وتردي الواقع الأمني والخدمي مدعاة لصب اللعنات وتوجيه الشتائم الى الناخبين قبل المنتخبين. ولو قدر لعامة الشعب العراقي أن يوضعوا في موقف الاختيار بين الحرية والأمن مثلاً لما كان لهم إلا أن يختاروا الأمن على أي بديل آخر وهذا لا يقدح بنضج العقلية الوطنية العامة بقدر ما يعطي مؤشراً على واقع الحال الناجم عن تضافر عوامل الافقار والتجهيل والتخريب الداخلية والخارجية التي أصابت الإدراك الجمعي العراقي بكدمات حادة. الى هنا نكون قد عززنا مقولة القائلين بإمكانية الرجوع الى حكم المستبد إذا ما أُوكل الأمر الى رغبة الشعب مجردة من أي تأثيرات أخرى. لكن فرضية كهذه تبدو غير واقعية إذا ما علمنا بأن العراقيين لا يتحركون عادة بوحي من إراداتهم الحرة وأفكارهم المجردة بل هم مجبولون على الانقياد خلف مآرب وأهداف ترسمها لهم النخب الاجتماعية والسياسية، ومع هذا الشرط اللازم يصبح الحديث عن إمكانية تغيير الأنظمة الحاكمة بمشيئة شعبية ضرباً من الأساطير، فالكلمة الفصل في مثل هذا الموضوع بيد من يمتهنون ألاعيب السياسة ويجيدون السير في دهاليزها المظلمة. وهؤلاء على اختلاف انتماءاتهم الفكرية سينظرون الى مسألة إعادة الحكم الديكتاتوري الى العراق بنظرة شزراء، فصندوق الاقتراع الديموقراطي لن يكون أخطر عاقبة من انقلابات العسكريين حتى بالنسبة الى أكثر المتضررين من نتائج هذا الصندوق. قد يحاول البعض التشكيك في قدرة القوى السياسية، لا سيما المتناحرة منها على اتخاذ قرار التصدي لمحاولات الرجوع بالعراق الى ما كان عليه قبل 9 نيسان (ابريل) عام 2003 بدعوى أن جل هذه القوى تنتمي الى منظومات خارجية، وكل بحسب الولاء الجهوي والانتماء العقائدي، غير أن هذا التشكيك يُرد حينما نتأمل في مدى التصدعات والتشققات التي أصابت وستصيب كيانات سياسية محسوبة على هذه الدولة أو تلك، ونظرة واحدة على مجمل الأحداث السياسية الراهنة تعطي انطباعاً بقلة قدرة العديد من الدول ذات التأثير في المشهد السياسي على لمّ شتات أتباعها تحت قائمة انتخابية موحدة قبل الانتخابات وكذلك في الحفاظ على ما بقي من اتحاداتها بعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية الاخيرة، فضلاً عن سقوط ذريع لعدد من مشاريع دول أخرى حاولت دخول مسرح النفوذ العراقي وقضم قطعة منه. إن الضمانة لعدم العودة الى حكم التسلط والاستبداد موكولة الى عهدة القوى السياسية العراقية الراهنة التي وإن اختلفت على كل شيء فإنها لن تجد مفراً من الإذعان الى بديهة ذائعة الصيت تفيد بأن الديموقراطية في أسوأ تطبيقاتها أفضل من الديكتاتورية في أحسن تطبيقاتها.