ذهب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بدعوته إلى تجديد الخطاب الديني التي تبناها منذ أن اعتلى كرسي الرئاسة في بلاده، إلى أبعد مدى حين أكد الحاجة ل «ثورة دينية». ولا يترك السيسي فرصة إلا ويُلح على هذا الأمر، ولوحظ أنه استبدل أخيراً مصطلح «التجديد» ب «تصويب الخطاب الديني». تلك الدعوة بدت وكأنها سياسة عامة للدولة المصرية حتى في علاقاتها الخارجية، إذ تؤكد مصر دوماً أنها تشارك في جهود مكافحة الإرهاب الدولية بدور فعال في تجديد الفكر الديني والتصدي للأفكار التكفيرية والمتطرفة. وأعلنت القاهرة أن مشاركتها في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب في سورية والعراق ستقتصر على جهود الأزهر في التصدي لتلك الأفكار. لكن المفارقة أن الدولة التي يتصدر أجندتها لمكافحة الإرهاب جهد لتجديد الخطاب الديني، وأطلق رئيسها دعوة إلى «ثورة دينية»، سُجن فيها قبل أيام باحث في التراث الإسلامي لإدانته ب «ازدراء الإسلام» بسبب انتقاداته لما حوته بعض كتب التراث الإسلامي من أفكار متشددة. وقضت محكمة استئناف بسجن الباحث والإعلامي إسلام بحيري لمدة عام لإدانته ب «ازدراء الدين الإسلامي». وكانت محكمة جنح أول درجة عاقبت بحيري بالسجن لمدة 5 أعوام، فاستأنف الحكم، فخففت المحكمة العقوبة لعام واحد. وأقام محام دعوى قضائية ضد بحيري مطالباً بسجنه بسبب ما اعتبره مساساً منه بثوابت الدين، عبر حلقات برنامجه «مع إسلام» الذي أوقفته فضائية «القاهرة والناس»، بعدما أثار صخباً وجدلاً كبيرين، وصل حد اتهام الأزهر لبحيري ب «بث أفكار تمس ثوابت الدين»، وقُدم بلاغ ضده إلى النائب العام. ودأب بحيري على مهاجمة أئمة كبار مثل ابن تيمية، معتبراً أن كتبهم تحض على العنف والإرهاب، ووصف كتباً في التراث الإسلامي بأنها «عفنة». وهو أيضاً دائم الانتقاد للأزهر ومشايخه، حتى إنه اعتبرهم في أكثر من مرة «عبدة لكتب التراث». وتحول تدريجياً من نقد كتب التراث إلى الهجوم على الأزهر وشيوخه. وجدد سجن بحيري الخلاف بين الأزهر من جهة ومثقفين ومبدعين من جهة بسبب الخصومة بين الإعلامي والأزهر. لكن الأزهر أكد أن لا علاقة له بسجن بحيري، وأنه لم يكن يتمنى هذا المصير له ولا لغيره، عازياً موقفه من بحيري إلى تجاوزه «حدود التعبير عن الرأي إلى ما لا يمكن للأزهر غض الطرف عنه من واقع الأمانة التي يحملها وواجبه نحو بيان صحيح الدين والدفاع عنه». ويستند الأزهر في مواقفه إلى نص المادة 7 من الدستور التي اعتبرته المرجعية الدينية في البلاد، إذ نصت على أن «الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص من دون غيره بالقيام على شؤونه كافة، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية». وستفصل محكمة بعد غد في طلب تقدم به بحيري لإطلاقه من السجن لحين فصل محكمة النقض، أعلى سلطة قضائية في البلاد، في طعن تقدم به ضد حكم سجنه، باعتبار أن محكمة برأته من تهمة «ازدراء الأديان» في البلاغ الذي تقدم به الأزهر، فيما دانته محكمة أخرى عن التهمة ذاتها في البلاغ الذي تقدم به محام. واعتبر الخبير في مركز «الأهرام» للدراسات السياسية والإستراتيجية نبيل عبدالفتاح أن سجن بحيري يشير بوضوح إلى «مشاكل قانونية تحتاج إلى موقف واضح من قبل الدولة المصرية وأجهزتها في ما يتعلق بحرية الرأي والتعبير، خصوصاً الحريات الدينية»، معتبراً أن «هناك خللاً في النظام القانوني، مثل قانون ازدراء الأديان الذي يفتح الباب أمام تحريك دعاوى الحسبة التي يلجأ إليها بعض المتشددين لحبس المبدعين، وهذا يهدد في العمق سلطان دولة القانون وسلطان حرية التعبير، ويجعل مصر جزءاً من التقارير الدولية الخاصة بانتهاكات حرية الرأي والتعبير والتدين والاعتقاد ما يؤدي إلى التأثير السلبي في صورة مصر دولياً». ودعا عبدالفتاح البرلمان الجديد، الذي يعقد أولى جلساته في 10 كانون الثاني (يناير) الجاري، إلى تناول «هذه المشكلة (دعاوى الحسبة) بشجاعة وجدية»، مطالباً بإلغاء قانون «ازدراء الأديان» وغيره من القوانين التي تحد من حرية التعبير. وأضاف عبدالفتاح أن «قضية بحيري تثبت أن كل جهة في الدولة تحاول فرض هيمنتها الفعلية على المجال الذي تتخصص فيه. الأزهر يعتبر أن أي مناقشة لأمور الدين هو أمر من اختصاصه، وهذا خطأ، لأن الأزهر مؤسسة دينية لها احترامها، لكنه ليس مقدساً»، منتقداً «فتح الباب أمام آحاد الناس إلى اللجوء إلى القضاء لمطاردة الأفكار» محذراً من «أن استمرار هذا الوضع سيؤدي إلى مزيد من التوتر بين الأجيال الجديدة الشابة في مصر تجاه المؤسسات الدينية وأجهزة الدولة الأخرى». ولفت عبدالفتاح الى ان «أياً كان شكل الاجتهاد، وإن كان مصيباً أو مخطئاً، يجب أن يُرد عليه بالفكر بكل حسم لتبيان الأكثر صواباً. مواجهة الفكر بالسجن يشكل ردة كبيرة، وهذا النوع من قضايا الحسبة سيؤدي إلى إشاعة الخوف من الاجتهاد لدى المثقفين والمبدعين وحتى رجال الدين المستنيرين، وسيفتح الباب واسعاً أمام المزيد من الهجوم على بعض الأفكار الفقهية الإسلامية على المواقع الافتراضية ما سيهز صورة المؤسسة الدينية لدى المواطنين العاديين. لم تعد المرحلة الراهنة من الثورة الرقمية تسمح باللجوء إلى الأساليب التقليدية». واعتبر عبدالفتاح أنه «حتى هذه اللحظة لم تظهر أي مؤشرات إلى رؤية في شأن تجديد الخطاب الديني، مجرد رؤية وليس إجراءات للتجديد. ولم نتحرك خطوة واحدة إلى الأمام، في هذا الملف».