يقف السودان هذه الايام على بعد خطوات قليلة من احتمالات التقسيم والتفتت أو الفوضى. فقد كانت اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) التي وقعت بين المؤتمر الوطني الحاكم (الحركة الاسلامية سابقاً) والحركة الشعبية لتحرير السودان، مطلع 2005، هي الفرصة الاخيرة لبقاء السودان موحداً، ومتجاوزاً لأزماته المزمنة. وجاءت نصوص الاتفاقية مملوءة بوعود السلام والتحول الديموقراطي والتنمية والوحدة الوطنية. وأصبح الأمر يعتمد على صدقية وجدية الشريكين، وحرصهما على تطبيق روح الاتفاق من دون مناورات والتفافات حول المبادئ. ولكن يبدو أن كل طرف عاد الى الخرطوم، وكان له تفسيره وتوظيفه الخاص للاتفاق المختلف – طبعاً - عن موقف الطرف الآخر. وكان ينوي فرض اتفاقه الخاص ما امكن، فقد أصرّ كل طرف على اعلان انتصاره وأنه حقق اهدافه من الاتفاق، وهي متباينة إن لم تكن متناقضة. وتكوّن نظام سياسي هو أقرب الى التوأم السيامي برأسين أو رؤيتين. وهذه هي البداية الخاطئة أي غياب الرؤية الواحدة أو المؤتلفة على الأقل. وهذا هو سبب كل المشكلات والازمات الراهنة. اعتبر حزب المؤتمر الوطني، أن اتفاقية السلام اعطته شرعية وبغطاء دولي، كان يبحث عنها منذ انقلابه في 30حزيران (يونيو) 1989. وصار في امكانه أن يحكم لمدة ست سنوات جديدة، وتحت ظروف أفضل بلا حرب أهلية ولا معارضة فعّالة. ولم يعد يعتبرها مجرد حقبة جديدة لممارسة السلطة السياسية، بل فضّل مصطلح: التمكين. وهو هنا يعطي لحكمه رمزية دينية أو تأصيلاً له، بحسب الآية: «الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور». (سورة الحج:41). هذا التصور الديني للحكم يساعد في فهم السلوك السياسي الحالي لحزب المؤتمر الوطني، ويفسر طريقة تعامله المتعالي مع شريكه: الحركة الشعبية ومع المعارضة الشمالية. وقد واكبه تمكين دنيوي-عملي، تمثل في تقوية وتطوير الأجهزة الأمنية والسيطرة الكاملة عليها. ثم استخدامها في الهيمنة على/واختراق المؤسسات الاقتصادية والاعلامية. ثم آلت اغلب المؤسسات التعليمية والصحية، بعد عملية الخصخصة ورفع الدولة يدها عن مسؤولية التعليم والصحة؛ الى القادرين ماديا في الحركة الاسلامية، كافراد أو شركات. ولم يفرط الاسلامويون في المؤتمر الوطني، خلال السنوات الخمس الماضية من الفترة الانتقالية من أجل ترسيخ «التمكين»، ولم تكن اتفاقية السلام الشامل لديهم الا وسيلة لتحقيق ذلك الهدف، بخاصة وقد اقتنعوا بضرورة ممارسة القمع الناعم الذي لا يحتاج للتعذيب والاعتقال والاساليب التي تجلب لهم الادانة عالمياً. فأصبح الترغيب أكثر من الترهيب بين مجموعات كثيرة. واستطاع المؤتمر الوطني شق الاحزاب المعارضة. ومن المفارقات، أن الناطق الرسمي الحالي لحزب المؤتمر الوطني، كان قبل سنوات قليلة الناطق الرسمي للتجمع الوطني المعارض. وكان من القيادات العليا في الحزب الاتحادي الديموقراطي. من الجانب الآخر، فهمت الحركة الشعبية، بدورها، الاتفاقية والشراكة، باعتبارها تمريناً على حكم جنوب السودان منفردة. وعلى أرض الواقع تم تطبيق اتفاقية اخرى غير تلك التي وقعت في نيفاشا. وبدت وكأنها اتفقت مع المؤتمر الوطني، بأن يترك الجنوب بلا منافسة للحركة مقابل أن تسكت عن ممارسات المؤتمر الوطني في الشمال. وقد ظهر هذا التواطؤ جلياً في موقف الحركة الشعبية من عملية التحول الديموقراطي والتي تعتبر من أهم مستحقات الاتفاقية. فقد كانت الديموقراطية في مقدم شروط السلام، وفي مستهل الاتفاقية، نقرأ: «اقامة نظام ديموقراطي للحكم يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والعرقي والديني والجنس واللغة، والمساواة بين الجنسين لدى شعب السودان». بل يمكن اعتبار هذا المبدأ الأكثر تأثيراً على نجاح الاتفاقية بإجماع السودانيين. وما الأزمة الانتخابية الراهنة إلا احدى نتائج التقاعس في اكمال التحول الديموقراطي كما يجب. ومن البداية صرح بعض قادة الحركة الشعبية بأنهم غير مستعدين لكي يحاربوا معارك القوى السياسية الشمالية. وكأن التحول الديموقراطي قضية شمالية لا تعني الجنوبيين لأن اولويتهم هي السلام أو بمعنى أدق، تقرير المصير. عزلت الحركة الشعبية نفسها بعد الاتفاقية عن حلفائها التقليديين: التجمع الوطني الديموقراطي المعارض، والذي وقعت معه ميثاق مؤتمر القضايا المصيرية في اسمرا عام 1995. وهو وثيقة ممتازة ذات رؤية ثاقبة لحل مشاكل الوطن اشمل من تلفيق اتفاقية نيفاشا المتسرعة والغامضة، وإن بدأ التخلي عن الحلفاء حين ذهبت الحركة منفردة للتفاوض مع الحكومة. بعد هذا الموقف استفرد المؤتمر الوطني بالحركة الشعبية بخاصة بعد أن باعها فكرة أنه الضمان الوحيد لاتفاقية السلام، وألا بديل عن الشراكة. ومع ازدياد عزلة الحركة الشعبية، أمعن المؤتمر الوطني في المماطلة والتسويف والضغط عليها. وتعرضت العلاقة للتوتر وحتى الملاسنات بين الرئيس ونائبه الأول امام الجماهير. وهددت الحركة بفض الشراكة عام 2007 متهمة المؤتمر الوطني بالاستعداد للعودة للحرب، والتلاعب في حسابات البترول، ودعم الميليشات في الجنوب، والعمل على تفتيت وحدة الحركة الشعبية والاستمرار في الاعتقالات غير القانونية. صاحب هذه الخلافات بطء واضح ومتعمد في اجراءات التحول الديموقراطي المنصوص عليها في الاتفاقية والدستور الانتقالي مثل تأسيس المفوضيات المختلفة وتعديل وتغيير القوانين المتعارضة مع نصوص الدستور والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الانسان والموقع عليها من قبل حكومة السودان، وتصل الى 68 قانوناً. والآن تدخل الحكومة في مغالطات تتهم فيها الاحزاب بالتهرب من الانتخابات، وتنسى أن للانتخابات مقدمات وشروطاً واجواء ديموقراطية ماطلت في تنفيذها حتى الشهور الاخيرة السابقة للانتخابات، بل أبقت على بعضها حتى الآن. لم يعمل الشريكان على انجاز التحول الديموقراطي، وحين تدخلت الولاياتالمتحدة، مباشرة، لحل خلافات الشريكين لم تبد أي حماسة قوية لهذا المبدأ. وحين عرضت بعض القوانين المقيدة للحريات على المجلس الوطني، وتشدد في معارضتها بعض عناصر الحركة، عمل المبعوث الاميركي على تليين مواقف الحركة خشية أن يضر ذلك بالاتفاقية. ويخطئ من يظن أن الولاياتالمتحدة، مدافعة عن الديموقراطية في السودان. وهي تصر على قيام الانتخابات على رغم عيوبها، لأنها تخشى تأخير الاستفتاء في الجنوب والذي لا بد من أن يجري تحت ظل حكومة منتخبة في جميع السودان. وهدف اميركا الاستقرار بحسب تصورها الاستراتيجي لوضع المنطقة. ومن دون ضغوط خارجية ليس من الممكن توقع تحسن موقف الشريكين تجاه التحول الديموقراطي. إذ لا توجد دوافع ذاتية مصدرها ايديولوجية أو برنامج أي طرف. فقد تخلى المؤتمر الوطني – الحركة الاسلاموية سابقاً عن المشروع الحضاري الاسلامي. كما تخلت الحركة الشعبية عن برنامجه ذي النكهة الماركسية ومشروع السودان الجديد الموحد. وابقى الطرفان على اتجاهات «شعبوية» تدعمها اجهزة الدولة المحتكرة وتوزيع الامتيازات أو العقوبات والاقصاء. وفي حالة الانفصال يتحول السودان الى ديكتاتوريتين في الشمال والجنوب. وفي حالة اختيار الوحدة، ندخل في «نيفاشا 2» ضمن انتخابات مزوّرة، ولكن، معترف بها دولياً. هل يعني هذا تدهور مستقبل الديموقراطية في السودان؟ نعم، لسنوات طويلة بسبب غياب البديل الحقيقي. فقد أكملت الاحزاب السياسية الاخرى دورتها الخلدونية في الانهيار. نتيجة عوامل ذاتية سهلت للعوامل الموضوعية عملها أي القابلية للانهيار أو التدهور. فالاحزاب السودانية عجزت عن تجديد نفسها: برنامجاً وقيادة وكوادر وتنظيماً. لذلك عندما تعرضت للقمع والمطاردة والتشريد والملاحقة لم تستطع أن تقاوم طويلاً وبكفاءة. وحكمت الانقاذ بسبب ضعف الآخر وليس بسبب قوتها الحقيقية. والآن لا يوجد حزب لم ينقسم الى اجنحة عدة. ولم يستطع أي حزب أن يصدر صحيفة يومية تعبر عن خطه السياسي. وتعاني كل الاحزاب من مشاكل مالية تقعدها عن القيام بأبسط النشاطات. فلا بد من اصلاحات حزبية جذرية، وقيام احزاب جديدة قاعدية وليس مجرد لافتات مثل المنتشرة الآن. اذ نلاحظ كثرة حزبية بلا تعددية حزبية. وكثير من هذه الاحزاب عدد الجمعية العمومية هو نفس عدد اعضاء اللجنة المركزية مثلاً، بالإضافة الى مشكلة الاحزاب القائمة على اسس قبلية أو عرقية أو جهوية اقليمية. كان التعويل كبيراً، قبل عقدين، على دور المجتمع المدني في إحياء وتجديد مسار الديموقراطية. ولكن سرعان ما صارت منظمات المجتمع المدني عبئاً على عملية التطور الديموقراطي، وعلى عملية الحداثة ككل في السودان. فقد شكلت منظمات المجتمع المدني نوعاً جديداً من القبلية المستندة الى الشللية والمصالح المالية الضيقة. وللمفارقة، ساعد بعض المانحين الاجانب في تعميق هذه العلاقات الشاذة أي أن تكون منظمات «حديثة» شكلاً، ولكن أداة من ادوات تجديد التخلف. ويبدو أن العاملين الاجانب من المانحين في العالم الثالث، ليس مطلوباً منهم في كل الاحوال خبرة وقدرات عالية، حين يتعاملون مع بلد مثل السودان. ومن الطبيعي أن توجد منظمات عالمية محترمة وجادة، ولكن في الوقت نفسه توجد اخرى افسدت علينا امكانية بناء مجتمع مدني متقدم. لذلك، تحتاج بيئة المجتمع المدني السوداني الى نقد ومراجعة، لأنها بشكلها الحالي هي حليف خفي للاستبداد والتخلف. يرجع هذا الوضع المتأزم الى أن السودانيين قاموا بعملية استنزاف يصل حد الاجتثاث للنخب المؤهلة والانتلجنسيا وحتى المتعلمين العاديين. فقد عرف السودانيون باختلاف انتماءاتهم ما سموه «التطهير» أو الفصل من اجل الصالح العام من جهاز الخدمة المدنية. وقد قام النظام الحالي باستخدام هذا الشعار لتشريد مئات الآلاف من السودانيين وتبع ذلك بفتح باب الهجرة واللجؤ، فتم تفريغ البلاد من صفوة مواطنيها الذين يجوبون الآن العالم الجديد والقديم. ومع هذا الفراغ، طفت الى السطح عناصر كثيرة لا تمتلك من المؤهلات غير الولاء للسلطة والانتماء الحزبي. وصاحب هذا التصحر الفكري والثقافي الذي ساد البلاد منذ انقلاب 1989. كل هذا يجعل من الصعب ظهور نخب جديدة قادرة على التغيير. * كاتب وباحث سوداني.