إطلاق التظاهرات وغيرها من أساليب الاحتجاج الشعبي ضد الجدار الفاصل فرض على إسرائيل الإذعان أخيراً لمطلب تغيير مساره عند قرية بلعين غرب رام الله. أما إطلاق الصواريخ وتنفيذ عمليات مسلحة محدودة على حدود غزة فوفرا لإسرائيل الذرائع التي تبحث عنها لشن هجمات تفاوتت بين غارات سريعة وعدوان شامل. هذه، بشيء من الاختزال، حصيلة خمس سنوات هي عمر تجربتين مختلفتين في المقاومة. إحداهما تجربة المقاومة المدنية الملهمة ضد مقطع الجدار الفاصل المقام على أراضي قرية بلعين في الضفة الغربية. والثانية تجربة المقاومة المسلحة المحبطة (بفتح الباء وكسرها في آن) في غزة منذ سحبت إسرائيل قواتها منه. حققت التجربة الأولى نجاحاً ملموساً، فيما منيت الثانية بفشل مشهود. ومع ذلك ما زالت الأولى مجهولة لمعظم العرب وغيرهم في العالم، فيما تُركز الأضواء على الثانية في ظل اعتقاد سائد في أن المقاومة الفلسطينية لا بد من أن تكون مسلحة أو لا تكون. وهذا وضع شاذ لم تعرف مثله حركات التحرر الوطني التي تفيد تجاربها أن المقاومة هي بطابعها متعددة الأشكال وأن شكلها المسلح ليس الأكثر فاعلية بالضرورة، وأن أشكالها المدنية مفتوحة لمبادرات الناس وإبداعاتهم التي لا تحدها حدود الاحتلال أو قيود القدرة على حمل السلاح. غير أن الفكرة الخاطئة، وليست فقط السطحية، عن أفضلية المقاومة المسلحة في كل الأحوال تبدو منسجمة مع النمط الغالب الآن في التفكير العربي. فالإحباط الناجم عن الفشل المتكرر في الداخل وتجاه الخارج ينتج ولعاً بأي فعل عنيف حتى إذا كانت نتائجه عكسية. ولا يخفى أيضاً أثر أزمة المشاركة السياسية داخل البلدان العربية في تشكيل هذا الوعي الزائف. ففي غيابها لا يدرك معظم العرب معنى المقاومة المدنية التي تعبر عن نضال غير مسلح. فالمشكلة، إذاً، ليست محصورة في خطاب بعض الفصائل الفلسطينية أو أيديولوجيتها، لأن الواقع العربي يفتقر إلى تجارب في العمل الشعبي الفعَّال. غير أن هذه الفصائل تتحمل مسؤولية أولى في هذا المجال لأنها سعت إلى تغييب المقاومة المدنية طوال العقد الأخير، وخصوصاً منذ «انتفاضة الأقصى». ولم يجد الإعلام العربي في نماذج المقاومة المدنية، التي بدأت في الانتشار أخيراً، ما يحفز على الاهتمام إلا في ما ندر. وحتى عندما خصصت «مؤسسة الفكر العربي»، في مؤتمرها الثامن الذي عقد في الكويت قبل أسابيع، «جائزتها في مجال «الإبداع المجتمعي» لقرية بلعين، مر الإعلام على الحدث مرور الكرام. ولذلك لم يلتفت أحد إلى المغزى العميق لحيثيات منح هذه الجائزة، وخصوصاً اعتبار بلعين تجربة مبدعة في مجال المقاومة التي وصُفت بأنها «اجتماعية سلمية نوعية» في مواجهة الاحتلال والجدار. بدأت هذه التجربة بتنظيم احتجاجات ضد بناء الجدار، وانتظمت أسبوعياً بقيادة لجنة شعبية نشطة، ولو كانت بقيادة الفصائل لاختلف المشهد الفلسطيني الراهن أشد الاختلاف. فقد نجحت هذه اللجنة في إطلاق طاقات سكان القرية الذين يقل عددهم عن الألفين، فأبدعوا أشكالاً في المقاومة الشعبية يجدر بكل من يعنى بالعمل الثوري للشعوب أن يوثقها. ولم تكن مقاومة بلعين على المستوي القانوني أقل إبداعاً. فقد وصلت هذه المقاومة، التي انتزعت حكماً من المحكمة العليا الإسرائيلية بعدم قانونية الجدار في مساره الذي يقسم القرية، إلى كييبك لمقاضاة شركتين كنديتين شاركتا في بناء وتسويق مباني مستوطنة أقيمت على جزء من أرض بلعين. وعلى رغم أن هذه التجربة الملهمة جذبت مئات المتضامنين الأجانب، فضلاً عن نشطاء حقوقيين وسياسيين إسرائيليين، ظلت مجهولة بالنسبة إلى معظم العرب. ولكن ما لا يعلمه حتى العارفون بها أنها لم تعد وحيدة في فلسطين. غير أنها ما زالت قليلة تجارب المقاومة المدنية حتى الآن. فقد قدمت قرية نعلين نموذجاً فيها يقترب إلى حد كبير من حال بلعين. وقد ألهمت تجربة ثالثة في قرية بدرس مخرجة سينمائية برازيلية لإخراج فيلم وثائقي عنها لم يتحمس له أحد ممن يستطيعون التعريف به ربما لأنه يُظهر التلاحم الحي بين فلسطينيين من أبناء هذه القرية وإسرائيليين يرفضون سياسة «الأبارتيد الإسرائيلي». وفي هذا الفيلم يمد عضو في حركة «حماس» يديه إلى شبان إسرائيليين يدافعون عن الحق الفلسطيني في مشهد عميق المغزى. والحال أن ثمة مقاومة مدنية آخذة في الانتشار ولكن ببطء، إذ يسعى الفلسطينيون في مواقع عدة في الضفة الغربية إلى أخذ زمام المبادرة في مواجهة رموز كبيرة للاحتلال مثل جدار الفصل والحواجز العسكرية والشوارع المغلقة. والأرجح أنها ستزداد انتشاراً بعد أن أثبتت نجاحاً عملياً رد على المشككين في جدواها عندما رضخت سلطة الاحتلال أخيراً للحكم الذي أصدرته المحكمة العليا بتغيير مسار الجدار عند بلعين وأبلغت رئيس مجلس القرية أنها ستعيد نحو سبعمئة دونم إلى أصحابها. ويعني ذلك أن المقاومة المدنية هي الأمل الباقي في تحرير الأرض الفلسطينيةالمحتلة في العام 1967. فلن يبزغ فجر الحرية في فلسطين إلا من أزقة القرى والبلدات القديمة والمخيمات. ولكن هذا يتوقف على مدى استجابة الفصائل الفلسطينية المشغولة بنفسها عن قضيتها، واقتناعها بأن اللحظة الراهنة في تاريخ هذه القضية تفرض إعطاء أولوية للمقاومة المدنية. ولا يتطلب ذلك أن تنقلب الفصائل التي «تقَّدس» المقاومة المسلحة على نفسها. كل ما هو مطلوب منها أن تعطي المقاومة المدنية فرصة مماثلة لتلك التي سادت فيها المقاومة المسلحة قبل أن تصل إلى طريق مسدودة صارت الآن مغلقة إلى أجل غير مسمى. أما حركة «فتح» فهي تستطيع استعادة دورها القيادي في النضال الوطني إذا اعتمدت استراتيجية محددة المعالم للمقاومة المدنية، وخرجت من دائرة العشوائية التي تدور فيها. فقد لجأت بعض قادتها أخيراً إلى أشكال من المقاومة المدنية، كما حدث في نهاية الشهر الماضي عندما نظمت مسيرات سلمية واسعة عقب اعتقال عضو لجنتها المركزية عباس زكي. ولم يلاحظ الكثير أن المسيرات الأكثر تنظيماً وفاعلية انطلقت من القرى المنخرطة أصلاً في المقاومة المدنية مثل بلعين وبدرس والمعصرة والنبي صالح وغيرها. ولكن الملاحظ أن رئيس حكومة السلطة في رام الله سلام فياض، الذي لم يأت من خلفية سياسية، أكثر وعياً ونشاطاً في مجال دعم المقاومة المدنية مقارنة بقادة «فتح». فليختلف من يشاء معه في هذا الموقف أو ذاك. ولكن موقفه تجاه المقاومة المدنية يصح أن يكون قدوة لقادة الحركة التي شاخت فثقلت حركتها وخفت موازينها.